تمهيد
لقد أصبحت شغوفا بالأخلاق التطورية أثناء إعدادي لأطروحتي (الداروينية الاجتماعية: التطور في الفكر الاجتماعي الألماني من ماركس حتى برنشتاين Socialist Darwinism: Evolution in German Socialist Thotght from Marx to Bernstein) والتي نشرت في 1999. لم يخطر ببالي قط، الطريق الذي ستسير فيه الدراسة. فبينما كنت أفحص الخطاب الدارويني في ألمانيا، وجدت أن معظم الداروينيون يعتقدون أن للداروينية تبعات ثورية على الأخلاق والقيم، وأنها تقدم أسسًا جديدة للأخلاق والقيم، وتطيح بالنظم الأخلاقية التقليدية. حفزتني هذه الأفكار على البحث في الأخلاق التطورية، وكنت في البداية أنوي فقط أن أقوم بوصف وتحليل تقدم الأخلاق التطورية في ألمانيا وفي أي مكان آخر. ولكن بمجرد قراءتي لكتابات (إرنست هيكِل Ernst Haeckel) وغيره من الداروينيين الأوائل، تحول تركيزي إلى مجال أخلاقي بعينه؛ وهو ما يسمى اليوم بأخلاقيات الطب الحيوي biomedical ethics.
أحد أسباب هذا التحول هو دراستي لأعمال إرنست هيكِل نفسه، والتي للمفاجأة، دافع فيها عن قتل الرضع المصابين بإعاقات معينة. ثم اكتشفت أن هناك الكثير من اليوجينيين الألمان كتبوا مقالات وفقرات في كتبهم عن كيفية تطبيق الداروينية على الأخلاق والقيم. لم يكن مقررًا أن يقوم اليوجينيون بدور مهم في هذه الدراسة، ولكني لم أتمكن من استبعادهم؛ فقادة الحركة اليوجينية (حركة تحسين النسل) كانوا من أبرز الداعمين للأخلاق التطورية.
أخيرًا –وبالتأكيد ليس آخرًا– أثار انتباهي كتاب (جيمس ريتشلز James Rachels) الذي صدر في أكسفورد عام 1990 (مخلوقون من الحيوانات: التبعات الأخلاقية للداروينية Created from Animals: The Moral Implications of Darwinism). يذكر ريتشلز أن الداروينية تقوض قدسية الحياة البشرية، ويبدو دعمه للقتل الرحيم شبيهًا بأفكار صادفتها في ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. كتاب ريتشلز، بالإضافة إلى آراء هيكل وبعض أنصار الداروينية الاجتماعية واليوجينية، اقترحوا علي البحث عن إجابة سؤال جديد: هل استخدم الداروينيون الألمان النظرية الداروينية لتحطيم مبدأ قدسية الحياة البشرية؟ أو بصياغة أخرى: ماذا تقول الداروينية أو حتى المتأثرين بها عن قيمة حياة الإنسان؟ بعد أن صغت السؤال بهذه الطريقة، انبثقت موضوعات أخرى تتعلق بالموت والحياة، وتحديدا بالحروب والصراعات العنصرية.
بعد أن أعدت صياغة أطروحتي عن الأخلاق التطورية لتشمل قيمة الحياة البشرية، كان هناك موضوعًا جديدًا يصعب الهروب منه؛ ألا وهو تأثير هذا الخطاب على هتلر. لم يكن هتلر في البداية ظاهرًا أمامي في الصورة، ومحاولة (دانيال جاسمان Daniel Gasman) الأحادية للربط بين هيكِل وهتلر جعلتني أقلق. ولكن كلما زادت قراءتي في كتب ومقالات الداروينيين واليوجينيين في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكذلك قراءتي عن هتلر، كلما ازددت اقتناعًا بوجود رابط تاريخي واضح بين الداروينية وبين أفكار هتلر. سأترك القارئ ليقرر بعد الانتهاء من قراءة أطروحتي إن كان الطريق بين هتلر والداروينية مستقيمًا أو منحرفًا. ودوري في هذه الأطروحة مقتصر على إظهار هذا الطريق من زمن داروين وحتى الحرب العالمية الأولى تقريبًا (في حالة هتلر، امتد النقاش زمنيًا لما بعد الحرب العالمية الأولى نظرًا لأن معظم خطب هتلر وكتاباته كانت بعد الحرب العالمية الأولى).
بعض المواد المعروضة في هذا الكتاب ظهرت من قبل في مقالات دورية مثل: (أصول الداروينية الاجتماعية في ألمانيا، من 1859 إلى 1895) و(الداروينية والموت: الحط من قيمة الحياة في ألمانيا، من 1860 إلى 1920)، و(تطور الإبادة العنصرية في الداروينية واليوجينية والسلمية في ألمانيا، من 1860 إلى 1918). والفضل يرجع للقراء المجهولين ولمحرر مجلة الدراسات الألمانية (ديتهيلم بوڤا Diethelm Prowe)، لتعليقاتهم الثرية النافعة على هذه المقالات.[*]
كذلك أود أن أتقدم بالشكر لأولئك الذين جعلوا من هذا الكتاب ممكنًا. أولا وقبل كل شيء جامعة ولاية كاليفورنيا في ستانيسلاوس؛ التي قدمت مراجع عديدة بالإضافة إلى منحهم إياي تفرغًا بحثيًا ومنحة بحثية. قسم الإعارة في مكتبة الجامعة (الشكر لـ جولي روبين Julie Reuben) قدم دورا محوريا للمشروع، ولولاه لكانت هذه الدراسة بالغة الصعوبة أو مستحيلة. أود أيضًا أن أشكر زملائي في قسم التاريخ على تشجيعهم المتواصل وإلهامهم. وجزيل الشكر أيضًا لمركز العلوم والثقافة (على الأخص جاي ريتشاردز Jay Richards وستيفن ماير Steve Meyer) على الدعم المادي الأساسي والتشجيع المستمر، الذي لولاه لاستغرقت هذه الدراسة وقتًا أطول. أود أيضًا أن أشكر مؤسسة تيمبلتون Templeton Foundation على تمويلهم لمؤتمر الكلية الصيفي لعام 2001، والذي أقيم تحت عنوان: (البيولوجيا والهدف: الإيثارية والأخلاق والطبيعة الإنسانية في نظرية التطور Biology and Purpose: Altruism، Morality، and Human Nature in Evolutionary Theory) والذي ساهم كثيرًا في تحفيز تفكيري.
أود أيضًا أن أشكر العديد من المكتبات وسجلات الأرشيف التي سمحت باطلاعي على المعلومات التي احتجتها لإتمام هذا البحث؛ أذكر منهم : مكتبة جامعة كاليفورنيا في بيركلي University of California، Berkeley، وأرشيف ومكتبة جامعة ستانفورد Stanford University، ومعهد هووفر Hoover Institution، ومكتبة ولاية برلين للتراث الثقافي البروسي Staatsbibliothek zu Berlin Preußischer Kulturbesitz، وأرشيف أكاديمية الفنون Akademie der Künste في برلين، وأرشيف جامعة همبولدت Humboldt University في برلين، وأكاديمية برلين براندنبورج للعلوم Berlin–Brandenburgische Akademie der Wissenschaften في برلين، والأرشيف الفيدرالي في كوبلنس Bundesarchiv Koblenz، ومكتبة ولاية بايرن Bayerische Staatsbibliothek في ميونخ، وأرشيف بيت إرنست هيكِل Ernst–Haeckel–Haus في يينا، وأرشيف جامعة فرايبورج University of Freiburg، وأرشيف جامعة زيوريخ University of Zurich، وأرشيف مدينة وولاية فيينا Wiener Land– und Stadtarchiv، ومكتبة النمساوية العامة Österreichische Nationalbibliothek في فيينا، ومركز الأبحاث ومركز توثيق الفلسفة النمساوية Forschungsstelle und Dokumentationszentrum für österreichische Philosophie في جراتس، وأرشيف عصبة الأمم League of Nations Archives في جنيف، وأرشيف جامعة جنيف University of Geneva، وأرشيف جامعة ڤروتسواف University of Wroclaw. وشكر خاص لڤيلفريد بلوتس Wilfried Ploetz، الذي سمح لي بالاطلاع على أوراق والده ألفريد بلوتس Alfred Ploetz، وكان مضيافًا بحق.
استفدت كثيرًا من تواصلي مع زملاء كثر ساهموا بفعالية في تطوري الفكري، وبدونهم كان هذا المشروع مستحيلًا. أشكر أيضًا على وجه الخصوص ميتش آش Mitch Ash وألان ميجل Allan Megill لمساعدتي في استيعاب تاريخ ألمانيا الثقافي وتاريخ العلوم. وكذلك ممتن للغاية لإدوارد روس ديكينسون Edward Ross Dickinson لقراءة جزء من المخطوط ومراجعته وإضافة اقتراحات للتحسين، وكذا مشاركته في المؤتمر والمراسلات بيننا عبر البريد الإلكتروني. هناك الكثيرون أيضًا يصعب ذكرهم بالاسم ممن شاركوا في المؤتمر أو راسلتهم عبر البريد الإلكتروني، أو استفدت من كتبهم ومقالاتهم. وأي خطأ في البحث يبقى خطئي وحدي وما كان فيه من صواب فالفضل لهؤلاء الباحثين وغيرهم والكثير منهم تجد اسمه في مسرد المصادر.
قام المحرر براندن أوميلي Brendan O'Malley بجهد رائع. حيث أبقاني على معرفة دائمة بكل مرحلة من مراحل المراجعة وأجاب عن كل تساؤلاتي في وقت وجيز. جزيل الشكر له على كل ذلك.
أخيرَا أود أن أشكر والداي، راي ولويس، على دعمهم وتشجيعهم بشكل لا يمكن إحصائه. وأهدي هذا الكتاب لزوجتي؛ ليزا، وأبنائي الغاليين؛ جوي، وجون، وجوزيف، وميريام، وكريستين، وهانا. لقد أضفوا على حياتي بهجة بينما كنت منهمكًا في المشروع، وكانوا يذكرونني دائمًا بقيمة حياة النفس البشرية.
[*] "The Origins of Social Darwinism in Germany, 1859-1895," Journal of the History of Ideas 54 (1993): 469-88; "Darwinism and Death: Devaluing Human Life in Germany, 1860-1920," Journal of the History of Ideas 63 (2002): 323-44; and "Progress through Racial Extermination: Social Darwinism, Eugenics, and Pacifism in Germany, 1860-1918," German Studies Review 26 (2003): 273-94.
مقدمة
اشتعل الصراع بمجرد ظهور كتاب داروين (أصل الأنواع On the Origin of Species) في 1859، ولم يقتصر الجدل على هل تنبثق الكائنات وحيدة الخلية بطرق طبيعية أم خارقة للطبيعة. ولكن العديد من معاصري داروين اعتبروا التطبيق الأخلاقي غير واضح، رغم أنه لم يناقش مسألة تطور الإنسان وتأثيرها على الأخلاق بشكل صريح إلا في العام 1871 في كتابه (أصل الإنسان The Descent of Man). جزء كبير من الاعتراضات المبدئية على الداروينية كان مصدره تهديدها الملموس للنظام الأخلاقي. آدم سيدچويك Adam Sedgwick نفسه، أستاذ داروين السابق للأحياء بجامعة كامبريدج عبر عن خوفه البالغ في خطاب أرسله لداروين عام 1859. وفور قراءته لكتاب (أصل الانواع) قال لداروين: "هناك فقرات كاملة في كتابك... صدمت ذائقتي الأخلاقية".
وأوضح أيضا: "كما أن هناك جانب مادي للطبيعة، هناك أيضًا جوانب أخلاقية وميتافيزيقية، ومن ينفي ذلك يسقط في وحل الحماقة. إن ذروة عظمة العلوم الطبيعية أنها تربط المادة بالأخلاق... وقد تجاهلت أنت هذا الرابط، وإذا لم أخطئ في فهم مرادك، فقد حاولت جاهدا لكسر هذا الرابط في حالة هامة أو حالتين. وإذا أصبح كسر هذا الرابط بين المادة والأخلاق ممكنًا –وأشكر الرب أنه ليس كذلك– أظن أن الإنسانية ستعاني ضررًا قد يصيبها بالتوحش، وسيغرق الجنس البشري في أدنى درجات الانحطاط التي لم يسبق أن وصل إليها حسبما يوثق تاريخه المكتوب".(1)
لم يكن سيدچويك الوحيد الذي اتهم داروين بتحطيم الأخلاق. فقد كان تأثير الداروينية على منظومة الأخلاق هو المحرك الأساسي لحملة ويليام چينينجز براين William Jennings Bryan ضد الداروينية في مطلع القرن العشرين في الولايات المتحدة. وبصفته داٍع للسلام فإن براين كان غاضبًا من الخطاب الدارويني للماديين الألمان، الذين حملهم مسئولية نشوب الحرب العالمية الأولى. وبسبب ارتعابه من الذبح الفاجر لشعوب يفترض أنها متحضرة اتفق مع سيدچويك في أن للداروينية تأثير وحشي وانحطاطي على البشر. كما عبر ألمان آخرون عن قلقهم من التأثير الأخلاقي للداروينية؛ فقد أوضح الراهب البروتستانتي رودولف شميد Rudolf Schmid في كتابه الصادر في 1876 أن الكثير من منتقدي الداروينية يعتبرونها "مجرد فرضية غير مثبتة، تهدد بإشعال النار في أنبل وأرفع إنجازات القرن المنصرم الثقافية، محولة إياها لكومة من رماد".(2)
مازال الخلقويون يتهمون الداروينيين بتقويضهم لمنظومة الأخلاق بشكل روتيني، بينما على الجانب اللآخر يبتهج الداروينيون بالتحرر الأخلاقي للداروينية. مجّد دانيال دينيت Daniel Dennett –أحد أبرز الفلاسفة الماديين– (فكرة داروين الخطيرة Darwin's Dangerous Idea)، والتي وصفها بـ"حامض عالمي"، يأكل في طريقه كل المعتقدات التقليدية عن الدين والأخلاق. ذهب عالم الأخلاق الحيوية الشهير بيتر سينجرPeter Singer وزميله چيمس ريتشلز James Rachels إلى أنه بسبب تأثير الداروينية الرافض لمفهوم قدسية الحياة البشرية في التقاليد المسيحية اليهودية، فإن حالات الإجهاض والقتل الرحيم وقتل الأطفال ستُبرر أخلاقيًا. وبينما يرى كل من سنجر وريتشلز ذلك تحررًا أخلاقيًا، أظن أن سيدچويك كان من الممكن أن يعتبر آرائهم تأكيدًا على نبوءته بتوحش ميول الداروينية.
في الواقع لم يكن على سيدچويك الانتظار طويلًا لتتحقق مخاوفه. فقد بدأ الكثير من الداروينيين في أواخر القرن التاسع عشر في تطبيق الداروينية على أمور أخلاقية، من ضمنها التساؤل عن قيمة حياة الإنسان. عالم الحيوان الألماني روبي كوسمان Robby Kossmann، الذي أصبح لاحقًا أستاذًا في الطب، كان أكثر صراحة من غيره في مقاله "قيمة حياة الفرد في الرؤية الداروينية للعالم" في 1880، حيث أعلن:
"إن الرؤية الداروينية للعالم يجب أن تنظر للمفهوم العاطفي الحالي لقيمة النفس البشرية كمفهوم مبالغ فيه يعرقل تقدم البشرية. وضع البشر –كغيرهم من المجتمعات الحيوانية– يجب أن يصل إلى أعلى درجات الكمال الممكنة، فعبر التخلص من العناصر الأقل موهبة لصالح الأفراد الأكثر موهبة لكسب مساحة أكبر لانتشار الذرية... وعلى الدولة أن تهتم بحفظ النوع والحياة المتميزة على حساب حياة الأقل تميزًا".(3)
كانت آراء كوسمان عن الموت والحياة صادمة ومستفزة في وقته، ولكن كما سنرى، الكثير من نظرائه الداروينيين عبروا عن أفكار مشابهة.
ومع بدايات القرن العشرين انتشرت أفكار شبيهة بأفكار كوسمان على نطاق واسع، خاصة عند أنصار اليوجينية –التي تعرف نفسها على أنها علم تحسين النسل البشري– التي استلهمت أفكارها من الداروينية. على الرغم من ذلك، لم يتفق كل أنصار الحركة على أين يجب أن ترتكز الجهود. من يجب أن يتم إدخاله في الفئات "الأقل موهبة" و"الأقل تميزًا" التي ذكرها كوسمان؟ من هو الشخص الذي تعتبر حياته أقل قيمة؟ أو دعنا نستخدم التعبير الذي دأب اليوجينيون على استعماله؛ من هم الأدنى؟
من وجهة نظري، السؤال واحتمالات إجاباته خبيثة، لكن أنصار الداروينية الاجتماعية واليوجينية كانوا خائفين من مساهمة نواحي الحضارة الحديثة في الانحطاط البيولوجي. ركزت حملتهم لمحاربة الانحطاط المرعب على مجموعتين: المعاقون، والأعراق غير الأوروبية الأصل، ظنا منهم أنهما يهددان صحة وسلامة الجنس البشري. ورغم عدم اتفاقهم حول أي المجموعتين تشكل خطرًا أكبر، إلا أن الكثير منهم –إن لم يكن معظمهم– اعتبروا المعاقين وغير الأوروبيين (وأحيانا بعض الأوروبيين غير الجرمانيين) أجناس أدنى، وشعروا بضرورة القضاء عليهم بطريقة أو بأخرى، سواء الآن أو في المستقبل.
ومن بين هؤلاء الذين اعتنقوا الداروينية الاجتماعية ونسخة عنصرية من اليوجينية، ظهر هذا السياسي الألماني نمساوي الميلاد، كان مجرد ذكر اسمه –هتلر– كفيلًا باستدعاء خيالات الشر والموت. ولأن هتلر كان رمزًا للشر، بينما كان لداروين مكانته العلمية المرموقة، فإن أية محاولة للربط بينهما تبدو غير منطقية. والسبب في ذلك منطقي؛ ببساطة داروين ليس هتلر. التمايز بين حياة الرجلين ووضعيهما كبير. داروين تجنب السياسة وتعامل مع منزله في مدينة داون كمعزل لإجراء أبحاثه البيولوجية وكتاباته. بينما كان هتلر زعيمًا للدهماء، يعيش ويتنفس على السياسة ويهيج مشاعر الحشود بخطاباته الحماسية.
سياسيًا، كان داروين ليبراليًا إنجليزيًا تقليدي، يدعم اقتصاد عدم التدخل ويعارض العبودية. وكمعظم معاصريه فإن داروين اعتبر العرقيات غير الأوروبية أدنى من العرق الأوروبي، إلا أنه لم يعتنق الآرية أو معاداة السامية الشرسة، والتي كانت الفكرة المركزية في فلسفة هتلر السياسية.
إذن ما هو الرابط بين الداروينية وهتلر؟ وهل هما مؤثران لهذه الدرجة؟ لعلنا نطرح السؤال بطريقة أخرى: هل اختطف هتلر الداروينية واتخذها رهينة لفلسفته السياسية الخبيثة؟ أم أنه فقط امتطاها وتركها تسير به إلى وجهتها؟ الرأي الأخير يمكن أن نبالغ في تبسيطه كالتالي: في البداية قوضت الداروينية منظومة الأخلاق التقليدية وقيمة النفس البشرية، ثم أصبح التقدم التطوري هو الضرورة الأخلاقية الجديد. ساعد هذا على ظهور الحركة اليوجينية، والتي أُسست بشكل صريح على مبادئ الداروينية. ثم بدأ بعض أنصارها في الدفاع عن القتل الرحيم وقتل الأطفال المعاقين. وعلى صعيد موازٍ، ذكر بعض الداروينيين أن الصراع العرقي البشري والحروب هي جزء من الصراع الدارويني للبقاء. خلط هتلر هذه الأفكار الداروينية الخبيثة مع معاداة السامية لينتج لنا؛ الهولوكوست.
في الواقع، تحدث كثير من العلماء عن أهمية الداروينية، أو على الأقل الداروينية الاجتماعية، في تمهيد الأرض لظهور الأيدولوجيات النازية والهولوكوست.(4) في دراسته عن تأثير الداروينية الاجتماعية على تشكيل أيدولوجيات النازية، كتب هانز جونتر تسمارتسليك Hans-Günther Zmarzlik أن "تحليل خطاب الداروينية الاجتماعية يشي بعملية تردي للمعايير، مصاحبة برغبة في التضحية بالفرد لصالح النوع، للحط من قيمة فكرة المساواة الإنسانية إلى اعتبار عد المساواة (الطبيعية) بين البشر، للحط من قيمة قواعد المنظومة الأخلاقية لصالح الحاجات البيولوجية".(5) مؤخرًا دافع ريتشارد إيڤانز Richard J. Evans عن موقف تسمارتسليك ضد أنصار التعديل التاريخي الذين يقللون من أهمية الداروينية الاجتماعية في مساعدة الأيدولوجيات النازية على الظهور.(6)
الرأي المقابل الذي يقول إن هتلر اختطف الداروينية له أدلته المنطقية، فقد أوضح الكثير من الباحثين أن الداروينية لم تقد أحدًا لاعتناق فلسفة سياسية معينة أو ممارستها. الديموقراطيون الاجتماعيون الذين كانوا يحملون اعتمادات ماركسية معصومة كانوا متحمسين للداروينية واعتبروها ترسيخًا وتأكيدًا لرؤيتهم للعالم. وبعد قراءته لكتاب (أصل الأنواع) لداروين، كتب ماركس لفريدريك إنجلز: "رغم أنه كتب بطريقة إنجليزية خشنة، إلا أن هذا الكتاب يحمل تأصيلًا في علم الأحياء لأفكارنا".(7) علاوة على ذلك، فإن الكثير من دعاة السلام ودعاة المساواة بين الجنسين والمدافعين عن تنظيم النسل ونشطاء حقوق المثليين
–الذين اضطهد النازيين بعضهم أو حتى قتلوهم– كانوا في الأساس داروينيون متحمسون، واستخدموا الداروينية لدعم أجندتهم السياسية والاجتماعية. الخطاب اليوجيني كان متوسطًا بين كل الأطياف السياسية، مما جعل المؤرخة آتينا جروسمان Atina Grossmann تقول باقتناع أن الطريق من اليوجينية والإصلاح الجنسي إلى النازية "طريق ملتف ومليء بالنزاعات".(8) لم تكن النازية في حسابات الداروينيين أو اليوجينيين من البداية، ولا حتى في النسخ العنصرية من اليوجينية.
التكافؤ متعدد المستويات بين أيدولوجيات الداروينية والنازية، خاصة عند تطبيقها على المستويات الأخلاقية والسياسية والفكر الاجتماعي، بالإضافة للجذور المتعددة لأيدولوجيات النازية، يجب أن يقودنا للشك في دعاوى أحادية أصل النازية. وقد أصاب المؤرخ اليهودي ستيڤن أسكهايم Steven Aschheim حين حذرنا من التوقف عن محاولة تتبع المؤثرات الثقافية المؤدية للنازية، مهما كانت المهمة في غاية التعقيد. فإن كانت الداروينية لا تقود بوضوح تام إلى النازية، فإن هذا لا يعني إسقاط الداروينية من قائمة المؤثرات التي ساعدت هتلر على تكوين آرائه، وبالتالي مهدت الطريق للهولوكوست. يقول أسكهايم:
"من الواضح جدًا أن الطريق من داروين وڤاجنر ونيتشه، وحتى من العنصرية ومعاداة السامية، إلى النازية لم يكن سهلًا أو مباشرًا. بالطبع تؤدي الطرق المتباينة إلى اتجاهات متباينة. ولكن رغم أنها تبدو ملتوية إلا إن أحدها قاد إلى معسكرات أوشڤيتز Auschwitz.
مهما بلغت المخاوف من غائية البحث، لا يجب أن يفل هذا تصميمنا على فهم العملية والدوافع التي قادت –على الأقل في إحدى الحالات– إلى هذا المصير. أؤمن أن الخوف من تعقيد المسألة سبب واهٍ، لهجر التاريخ الثقافي".(9)
لذلك، رغم إحاطتنا بالإمكانيات المتعددة للخطابات للداروينية واليوجينية والعنصرية في حقبة ما قبل النازية، إلا أننا لا يجب أن نغمض أعيننا عن التشابهات والتوازي بينها وبين الفكر النازي المتأخر. (أود هنا أن أوضح من البداية أنني رغم تركيزي على التأثير الثقافي للتاريخ، إلا إنني لاحظت أيضًا وجود تأثير سياسي واجتماعي واقتصادي –بالإضافة لعوامل أخرى– على تطوير الأيدولوجيات بوجه عام، والنازية بالأخص، ولكن هذه الموضوعات خارج نطاق هذه الدراسة.)
حافظ كيڤين ريب Kevin Ripp على هذا التوازن بدقة بالغة في عمله المبهر عن المصلحين الاجتماعيين الألمان الفاعلين خلال القرن العشرين. نظرية ريب تقول أن الوسط الإصلاحي الاجتماعي في ألمانيا أثناء عصر ڤيلهيلم Wilhelm –والذي يضم بين أطيافه مصلحين أخلاقيين ويوجينيين (سيظهر اسم بعضهم في ثنايا هذه الدراسة)– يحوي احتمالات متباينة؛ بعضها حميد، وبعضها خبيث. كان هناك طرقًا عديدة نحو الحداثة، ومعظمها لا يقود لاتجاه النازية. إضافة لذلك، كان ريب يعلم أن بعض جوانب الإصلاح الاجتماعي الألماني في مطلع القرن العشرين ساهمت في تطور الأيدولوجيات النازية، كما ساهمت الداروينية بشكل محوري "في صناعة هذه الأيدولوجية المرتبكة والبشعة والممسوخة، رغم أن التوليفة النازية من الداروينية والمجتمع المحلي تدعم وجود أكثر من مجرد التشابه السطحي بمحاولات الإصلاحيين في عصر ڤيلهيلم لإصلاح المشهد المتسع المتغير في سياسات جمهورية ڤايمار".(10) وبينما دأب ريب على تذكيرنا أن المصلحين الاجتماعيين في العصر الڤيلهيلمي لم يشكلوا بدايات النازية، إلا أنه لم يبرؤهم بالكلية، حيث يؤكد على:
"بل إنه كما يشير جريڤن آشوف وجيرهارد أن حماسة الحركات النسوية والحركات الإصلاحية الأخرى في العصر الڤيلهيلمي بالصحة العرقية وسياسات السكان مرتبطة بالتوحش واللاإنسانية في الهولوكوست. ذلك لأنهم أضفوا المشروعية على مثل هذه المفاهيم. مشروعية لم يكونوا ليستمتعوا بها في دوائر عديدة، مشروعية تتجاوز الظرف التاريخي العابر الذي استدعى هذه الحماسة".(11)
لم يقتصر الغموض الأخلاقي والسياسي على اليوجينيين وحركات الإصلاح الاجتماعي، بل إنه امتد إلى علماء الأنثروبولوجيا الألمان، والذين يعدون مكونًا حاسمًا في دراستنا، نظرًا لشرعنتهم للعلوم العنصرية على أساس من الداروينية. في دراسته لعلماء الأنثروبيولوجيا الألمان في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أوضح أندرو زيمرمان Andrew Zimmerman "الإمكانيات المتكافئة والمتناقضة" الملازمة لهذا النظام. بالإضافة لذلك أقر ان الأنثروبولوجيا الألمانية: "تقدم سلسة من الممارسات، والنظريات والأيدولوجيات التي تعد من أخطر الشرور في التاريخ الإنساني؛ ألا وهي الاستعمارية والإبادة الجماعية النازية".(12) ليس من المهم كم كان الطريق بين الداروينية والنازية ملتويًا، فقد مهدت الداروينية واليوجينية الطريق لأيدولوجيات النازية، خاصة لتركيز النازية على التوسع والصراع العنصري والتصفية العرقية.
تتوقف نظرة المرء إلى استقامة أو التواء الطريق بين الداروينية والنازية على الزوايا التي ينظر للنازية منها، فالداروينية الاجتماعية تعتبر أحد مكونات الفكر النازي –حتى ولو كانت المكون المركزي– فقط. ولو ركز المرء على معاداة السامية، والتي تشكل بالطبع جانبًا مهمًا من آراء هتلر، فحينها لن يعود هناك أية رابط بين الداروينية والنازية.(13) بعض اليهود كانوا داروينيين شرسين، وبعضهم كان يوجينيًا، وسيظهر القليل منهم على صفحات هذا العمل.(14) وهناك جوانب أخرى من رؤية هتلر للعالم وممارساته السياسية لا علاقة لها بالداروينية؛ مثل الديكتاتورية على سبيل المثال. ولكن إذا ركزنا على مسألة الأخلاق، وقيمة حياة النفس البشرية، والمسألة العرقية –كما سأفعل خلال الصفحات المقبلة– سيظهر الرابط التاريخي جليًا. بعد عرضها الشامل للجذور الداروينية لليوجينية، كانت شيلا فيث ڤايس Sheila Faith Weis محقة حين قالت:
"أخيرًا، بإمكان المرء أن يضيف، أن تصنيف الناس إلى "ذوي قيمة" و"عديمي القيمة"، واعتبارهم مجرد متغيرات راضخة للتعديل للوصول إلى "أعلى النتائج"، تمامًا كما فعل شالماير وكل اليوجينيين الألمان، لم يكن سوى اعتناق وجهة نظر أدت بعد مرورها بكثير من الأدوار والمراحل إلى ظهور العمالة المستعبدة ومعسكرات الموت في أوشڤيتز".(15)
دعونا نستكشف إذن باختصار الروابط بين الداروينية وهتلر قبل الانتقال إلى موضوع آخر.
أولًا، من المهم أن نفهم أن آراء هتلر عن القيم والأخلاق، بالرغم من أن بعض مواقفه تبدو محافظة أو رجعية، لكنها ليست كذلك بأي حال من الأحوال. على سبيل المثال؛ يركز بعض العلماء على أن رفض هتلر للنسوية والإجهاض توضح رجعية أفكار هتلر.(16) ولكن، كما بين مايكل بيرلي Michael Burleigh وڤولفجانج ڤيبرمان Wolfganag Wippermann في كتابيهما (ألمانيا: الدولة العرقية 1933 - 1945) أن الأيدولوجية النازية لا يمكن تصنيفها بتلك البساطة، لأن هتلر عارض النسوية والإجهاض بخلفية تختلف تمامًا عن خلفية المحافظين التقليدين. فقد اعتقد أن النسوية والإجهاض أمور مؤذية بيولوجيا، وبالتالي معارضة للعلم (وهو كان ضد إجهاض "الآريين" فقط). رغم توافق بعض سياساته مع المحافظين، لكنه اعتبر نفسه ثائرًا سيجلب التقدم والتطور لألمانيا والعالم.(17) كان بيرلي محقا عندما ذكر أن النازية كانت "محاولة ديستوبية لصناعة رجال ونساء جدد عبر محو أو تغيير قيمهم الأخلاقية الموروثة إلى قيم مستقاة من نسخة محدثة وعلمية من قيم ما قبل اليهودية والمسيحية. بعبارة أخرى، هي نقل للحضارات البدائية والقديمة عبر منظور داروين ونيتشه".(18)
يمكن تلخيص رأي هتلر في الأخلاق في الاقتباس التالي: "المثالية الأخلاقية تطالبنا أن نضع حياتنا كلها في خدمتها، بينما المثالية العرقية هي التي تمكننا أن نعيش وفق قواعده. في كل لحظة عمل أو لحظة فراغ يجب أن نسأل أنفسنا؟ هل يخدم هذا عرقنا؟ ثم نتخذ قرارنا بناء على ذلك". لم يكتب هتلر أو أحد حاشيته هذه الكلمات. كتبها بيولوجي دارويني شهير؛ فريتس لينتس Fritz Lenz المتخصص في الجينات، والذي أصبح أستاذ اليوجينيا في جامعة ميونخ في العام 1923.كتب لينتس هذه الكلمات في مقاله (العرق كمبدأ قيمي: نحو تجديد منظومة الأخلاق)، وفي العام 1933 كان لينتس يفخر أن هذا المقال "يحتوي على جميع الخصائص الأساسية لرؤية الحزب النازي للعالم".(19)
أحد المكونات الأساسية للرؤية النازية للعالم هو عدم المساواة الإنسانية، حيث تختلف قيمة البشر بناء على سماتهم البيولوجية. وفي كتابه (كفاحي Mein Kampf) عبر هتلر عن هذه الأفكار مرارًا، عندما بيّن رؤيته للعالم:
"لا أؤمن مطلقًا بالمساواة بين الأجناس، بل أدرك اختلافاتهم بجانب قيمتهم الأعلى أو الأقل، وعليه تُلزِم هذه المعرفة، وفقا للإرادة الأبدية التي تحكم هذا الكون، مساعدة الأفضل والأقوى لينتصر، واستسلام الأسوأ والأضعف. وبذلك أتبنى من حيث المبدأ قانون الطبيعة الأرستقراطي وأؤمن بصحة هذا القانون على الجميع حتى آخر كائن. فلا أعترف بالاختلاف في قيمة الأعراق فحسب، بل أيضًا الاختلاف في قيمة كل فرد من أفرادهم... لكن لا يمكن مطلقًا الموافقة على صحة فكرة أخلاقية، إذا كانت هذه الفكرة تشكل خطرًا على الحياة العرقية لحاملي الأخلاق الأعلى".(20)
سأشرح هذه العبارة بالتفصيل لاحقًا (في الفصل الحادي عشر)، ولكنني سأكتفي الآن بالقول إن هتلر كان يؤمن أن هؤلاء الأفراد غير المتساوين بيولوجيًا، مثل كل الكائنات، محبوسين في صراع دارويني أبدي لا فكاك منه للبقاء، حيث ينتصر القوى ويبقى، وينهزم الأضعف ويتلاشى.
انتشرت في خطابات هتلر المصطلحات والتعابير الداروينية، وعلى حد علمي لم يشكك أحد فيما أكده علماء كثيرون عن كون هتلر داروينيا اجتماعيا. فهذا أوضح من أن يمكن نفيه.(21) ولأجل إنقاذ العلم الدارويني من التلويث النازي، يؤكد بعض المؤرخين أن آراء هتلر كانت غير علمية أو شاذة، أو يشيرون إلى نظرته للداروينية كنظرة فظة ومبتذلة. على سبيل المثال، كتبت بيرجيت هامان Brigitte Hamnn في كتابها الرائع (ڤيينا هتلر Hitler's Vienna): "معظم النظريات المفضلة لدى هتلر تشترك في أنها لا تتوافق مع العلوم الأكاديمية، ولكنها كانت نتيجة المعالجة الذاتية لأفكار علماء بعينهم يزدرون العلماء المعتبرين لأقصى درجة، والذين كانوا يرفضونهم، ويبدو أن سبب ذلك منطقي".(22) على النقيض، أظهرت دراسات حديثة عن العلوم النازية (خاصة تلك المتعلقة بالبيولوجيا والعلوم الطبية واليوجينيا) أن التيار السائد من العلماء والأساتذة والأطباء –بما فيهم أولئك المحسوبون على اليسار السياسي– يعتنقون آراء عن الداروينية واليوجينية شبيهة بأفكار هتلر.(23) لم يكن فريتس لينتس العالم الوحيد الذي لاحظ انسجامًا بين أفكاره وبين النازية. حيث ستبين دراستي أن الكثير من أفكار هتلر مستقاة في الأساس من علماء وأساتذة معتبرين كانوا يواجهون تأثير الداروينية على منظومة الأخلاق والمجتمع (رغم تشرب هتلر لتأثيرات الداروينية لاحقًا عن طريق وسيط ثان أو ثالث). لا ينسحب الكلام هنا على العلماء والأطباء البارزين وحدهم بل يتعداهم إلى أساتذة الفلسفة والاقتصاد والجغرافيا.
حتى آراء هتلر الداروينية الاجتماعية عن التطرف العرقي كانت نفس آراء علماء ومفكرين اجتماعيين داروينيين بارزين، ولكن غالبا بدون الإشارة لليهود. كما أوضح الكثير من البيولوجيين الداروينيين والمنظرين الاجتماعيين أن التمييز العنصري لا يمكن الفكاك منه، كما أنه مفيد أيضًا، لأنه يجلب التقدم التطوري للنوع بشكل كامل.(24) أوسكار بيشل Oscar Peschel الدارويني البارز المختص في علم الأعراق والمحرر في دورية (داس آوسلاند Das Ausland)، أوضح في 1870 –قبل أن ينشر داروين (أصل الإنسان)، بل وقبل ميلاد هتلر نفسه– أن الأخلاق لا يمكن أن تناقض العملية الطبيعية الإبادة العرقية، وكتب:
" كل ما نعتبره حقًا للأفراد يجب أن يخلي مكانه لصالح المتطلبات العاجلة للمجتمع الإنساني، إن لم تكن متوافقة مع هذه المتطلبات. على هذا يجب أن نطالع انقراض الذئاب التسمانية كقّدر جيولوجي أحفوري؛ حيث حل النوع الأقوى مكان النوع الأضعف. هذا الانقراض محزن في ذاته، ولكن المحزن أكثر هو أن النظام الطبيعي للعالم يسحق الأخلاق تحته في كل مواجهة بينهما".(25)
بيشل يريد منا أن نؤمن أن الطبيعة تتفوق على الأخلاق كل مرة، حيث يعلمنا العلم أن نستسلم للحقيقة القائلة بأنه لا توجد حقوق للإنسان في هذا العالم، ولا حتى الحق في الحياة. لا عجب إذن أن سيدچويك كان قلقًا.
سأناقش هتلر بشكل أوسع في الفصل الحادي عشر، حيث سأبين كيف اعتمد هتلر على رصيد سخي من الأفكار الداروينية لتأسيس فلسفته العنصرية الخاصة. ما كان يهمني حقا في هذا العمل ليس هتلر بل الداروينية، وبالأخص تأثيرات الداروينية على منظومة الأخلاق، وكذا على فهمنا للحياة والموت.
عند استخدامي لمصطلح الداروينية في هذا البحث فإني أعني به التطور عبر الانتقاء الطبيعي كما قدمه داروين في كتابه أصل الأنواع. بينما كان مصطلح الداروينية في أواخر القرن التاسع عشر يستخدم كثيرًا بطريقة فضفاضة. أحيانًا يشير إلى فكرة التطور بشكل عام، وأحيانًا يشير إلى نظرية الانتقاء الطبيعي (كما أستخدمها هنا)، وفي أحيان أخرى يشير إلى الرؤية الطبيعانية للعالم التي يوجد التطور البيولوجي في صلبها.
ظهرت الخلافات بين هؤلاء الذين اتفقوا على صلاحية فكرة التطور في أواخر القرن التاسع عشر حول آليتها. الكثير من البيولوجيين تبنوا فكرة لامارك –والتي لم تعد محل ثقة حاليًا– التي تقول أن الكائن يمرر السمات المكتسبة لنسله. على الرغم من أن تفسير لامارك لم يكن مناقضًا لفكرة داروين عن الانتقاء الطبيعي (حتى داروين نفسه قبل درجة من اللاماركية)، معظم البيولوجيين الألمان في القرن التاسع عشر تبعوا آراء هيكل التي قادت إلى المزج بين الداروينية واللاماركية.
أود أيضًا أن أوضح من البداية أن هذه الدراسة تاريخية. عندما أربط بين داروين، والداروينيين الألمان، واليوجينيين، والمنظرين العنصريين، والعسكريين فإن هذا لا يعني إقراري بمنطقهم، سأترك القارئ ليقرر منطقية حالتهم. كما أنى لا أحمل الادعاء السخيف القائل أن الداروينية تقود حتمًا إلى النازية بطريق مباشر أو غير مباشر. وبتعبير فلسفي؛ الداروينية كانت سببًا مهمًا لظهور الأيدولوجية النازية، ولكنها لم تكن السبب الوحيد. ولكن أيًا كانت منطقية أو لا منطقية الرابط بين الداروينية والنازية، تاريخيًا؛ الرابط بينهما لن يزول بمجرد تمني زواله.
ثانيًا؛ أود أن أؤكد أني اقتصرت في النقاش عن تأثير الداروينية على الجانب الأخلاقي والفكر الاجتماعي، خاصة الأفكار التي يطلق عليها الآن أخلاقيات الطب الحيوي. سأركز بشكل أساسي على تأثير الداروينية على كل من اليوجينية، والقتل الرحيم، والنظرية العرقية، والعسكرية في ألمانيا. وبينما تعد هذه المبادئ أساسية في الفكر النازي، إلا أن هذا لا يعني أن ننعت حاملي هذه الأفكار بأنهم النازيون الأوائل، لأن النازية انسابت من أفكارهم. الكثير من الرموز التي سأتناولها كانت ليبرالية بطريقة أو بأخرى، بعضهم كان اشتراكيا، والبعض كان سلميًا والبعض كان يهوديًا. بالإضافة لذلك عندما نحرك الضوء بعيدًا عن الأيدولوجيات السياسية ونركز على الأخلاق وعلى قيمة الحياة وعلى الفكر العنصري، سنجد عادة أن الداروينيين الذين كانوا أقطابًا متفرقة سياسيًا، لديهم الكثير من نقاط الاتفاق أكثر مما كنا نظن عند أول نظرة.
هناك سبب آخر يجعلنا لا نعتبر تقليل الداروينية من قيمة الحياة كمقدمات للنازية، وهو أن أفكارًا شبيهة بها تداولت في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من الدول الديموقراطية. وقد أكد كل من إيان داوبيجن Ian Dowbiggen ونيك كيمب Nick Kemp في دراستهما الجيدة عن تاريخ حركة القتل الرحيم في الولايات المتحدة وبريطانيا على الدور المحوري الذي قامت به الداروينية في وضع الأساسيات ورسم الأفكار الداعمة لحركة القتل الرحيم. يقول داوبيجن: "كان المنعطف الأساسي في بدايات حركة القتل الرحيم هو وصول الداروينية إلى الولايات المتحدة".(26) ويدعم كيمب هذا الرأي بقوة ويقول: "إذا كان علينا أن نقلق من وصم داروين بالرجل الذي قادنا لعصر علماني، يجب أن نكون أيضًا حذرين من أن نبخس أهمية الفكر التطوري عند بحثنا عن قدسية قيمة الحياة البشرية".(27)
أظهرت العديد من الدراسات عن الحركة اليوجينية في الولايات المتحدة وأوروبا وفي أماكن أخرى من العالم أهمية الداروينية في أن تكون وسيطًا للتحول نحو اليوجينية وغيرها من الأفكار المتعلقة بما فيها الحتمية البيولوجية، واللامساواتية، والعنصرية العلمية، والتقليل من قيمة حياة الإنسان.(28) هذه الأفكار عبر عنها ماديسون جرانت Madison Grant، رئيس جمعية علوم الحيوان في نيويورك؛ في كتابه (زوال الجنس الأعظم The Passing of the Great Race) 1916 وتبدو للأسف قريبة من الأسلوب النازي في التفكير (وقد اقتنى هتلر الترجمة الألمانية للكتاب).
كتب جرانت: "النظرة الخاطئة لما نعتقد أنه قانون إلهي أو اعتقاد عاطفي بقدسية حياة الإنسان هي السبب في منع التخلص من الأطفال الفاسدين وتعقيم البالغين الذين لا قيمة لهم في المجتمع. قوانين الطبيعة تتطلب إبادة العناصر غير الملائمة، وليس للحياة البشرية قيمة إن لم تكن ذات نفع للمجتمع أو للعرق".(29) كما أوضح شتيفان كول Stefan Kühl بشكل صريح الروابط العديدة بين الحركة اليوجينية الأمريكية والبرنامج النازي اليوجيني.(30) إذن لم يكن بخس قيمة الحياة الإنسانية مفهوم قاصر على ألمانيا، بل إنه كان السبب في مآس بشرية خارج ألمانيا مثل معسكرات التعقيم الإجباري في الولايات المتحدة والدول الاسكندنافية. ولكنها لم تصل لنتائج كارثية كما فعلت في ألمانيا، ألمانيا وحدها هي التي كان يحكمها ديكتاتور يحمل أجندة راديكالية يناضل من أجل تحقيقها تحت غطاء الحرب.
كان لنظرية التطور بوجه عام والداروينية بوجه خاص أثر هائل في الفكر الألماني. كتب داروين لـ(ڤيلهيلم براير Wilhelm Preyer) في عام 1868: "الدعم الذي أتلقاه من ألمانيا هو الأصل الذي أبني عليه أملي بأن أفكارنا ستسود في يوم من الأيام".(31) وبالفعل، في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر بدأ الكثير من صغار العلماء الألمان في تشجيع الداروينية، بينما كان البيولوجيين البارزين وغيرهم من العلماء –مثل اللاهوتي الشهير داڤيد فريديريش شتراوس David Friedrich Strauss وفيلسوف الكانتية الجديدة فريديريش ألبرت لانج Friedrich Albert Lang– يلجؤون للداروينية لدعم نظرياتهم السياسية والاجتماعية.(32) وبحلول العقد التاسع من القرن التاسع عشر حاول الكثير من البيولوجيين والمنظرين الاجتماعيين تطبيق الصراع الدارويني للبقاء على المجتمعات الإنسانية، وبدأ (لودڤيش ڤولتمان Ludwig Wolttmann) –الذي انتقد هذه المحاولات في أحد مراحل حياته– في الإشارة لهذه المحاولات باعتبارهم جميعًا داروينيين اجتماعيين.(33)
لا يقاس تأثير الداروينية فقط بتدفق الكتب والمقالات التي تناقش التطبيقات الاجتماعية والاخلاقية للداروينية في أواخر القرن التاسع عشر في ألمانيا، والنمسا وسويسرا وحدهم (ولذا عندما أشير بشكل عام إلى الدول المتحدثة بالألمانية أذكر ألمانيا وحدها اختصارًا)، ولكن أيضًا نجده عادة في شهادات السيرة الذاتية. (ريتشارد جولدشميت Richard GoldSchmidt) أحد علماء الوراثة البارزين في القرن العشرين، أظهر تعاطفه مع أدبيات داروين في شبابه. في عمر السادسة عشر ذكر أنه قرأ كتاب (التاريخ الطبيعي للخلق Natural History of Creation) لـ(إرنست هيكل Ernst Haekel):
"بعين متقدة وروح وثابة. بدا أن كل مشاكل الكون تحل ببساطة وباقتناع، كان هناك مفتاحا واحدًا للإجابة عن كل الأسئلة التي تقلق العقل الصغير. نظرية التطور كانت الحل لكل شيء، ويمكنها أن تأخذ مكان كل الاعتقادات التي نبذتها. ليس هناك خلق ولا خالق، ولا جنة ولا نار، فقط التطور وذلك القانون الرائع المسمى بنظرية التلخيص، التي تثبت نظرية التطور لأقوى المؤمنين بالخلق. كنت منبهرًا عندما تواصلت مع آخرين بشأن معلوماتي الجديدة، كان هذا في فناء المدرسة، وفي الرحلات المدرسية وبين الأصدقاء. أتذكر مشهدًا حيًا خلال نزهة مدرسية عندما وقفت محاطًا بمجموعة من تلاميذ المدرسة أشرح لهم إنجيل الداروينية كما كان يراه هيكل".(34)
يقول جولدشميت أن تجربته في اعتناق الرؤية الداروينية للعالم (على الطريقة الهيكلية) كانت نموذجية بالنسبة لصغار المتعلمين في زمنه، ويؤكد على ذلك شهادات غزيره من معاصريه. ففي العام 1921 قال أخصائي الفسيولوجيا (ماكس فيرڤون Max Verworn): "يمكن للمرء أن يقول دون مبالغة، أنه لا يوجد عالم كان له تأثير كبير على تطوير رؤيتنا المعاصرة للعالم مثلما فعل هيكل".(35)
إرنست هيكل، الدارويني الأشهر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تبنى بمنتهى الحماسة نظرية داروين في الانتقاء الطبيعي وطبق الصراع من أجل البقاء على البشر في كتابات عديدة.(36) كان يؤمن أن أهم جوانب الداروينية هو انحدار الإنسان من أسلاف حيوانية، والذي سوف "يجلب ثورة كاملة في رؤية البشر للعالم بأكمله". نظرية تطور الإنسان "ستنفذ بعمق أكثر من أي تقدم آخر في العقل البشري" وستساعد على دمج كل فروع العلوم الأخرى.(37) هنأ هيكل داروين في عيد ميلاده السبعين على أنه "أوضح للإنسان مكانه الحقيقي في الطبيعة، وأطاح بأسطورة مركزية الإنسان"؛ الفكرة التي تقول أن الإنسان هو مركز الكون والتاريخ.(38) وقد دأب هيكل في كتاباته على انتقاد "أسطورة مركزية الإنسان" كفكرة دينية لم تعد مقبولة في ضوء العلم الدارويني.(39)
ويتفق معه في ذلك الطبيب المادي الشهير (لودڤيش بوشنر Ludwig Buchner)، وهو أحد أهم وأشهر مروجي نظرية الداروينية في ألمانيا. وكتب إلى الأنثروبولوجي (هيرمان شافهاوزين Hermann Schaffhausen) الذي اكتشف حفرية إنسان نياندرتال:
"بظهور المفهوم الجديد للحياة (ألا وهو الداروينية)، أعتقد أنه سيظهر معه أحد أعظم التحولات والتطورات في المعارف البشرية التي مرت على الإنسان... وفي نفس الوقت ستصبح فلسفتنا واضحة وبسيطة بشكل لم يكن متوقعًا".(40)
وينظر هيكل وبوشنر والكثير من الشباب والفتيات الذين تأثروا بهما إلى الداروينية كأكثر من مجرد نظرية بيولوجية. بالنسبة لهم تشكل الداروينية المكون الأساسي لاتجاه فكري جديد عن عالم كان محبوسًا من قبل في أفكار المسيحية التقليدية أو أي دين أو فلسفة ثنائية. ويتذكر أستاذ الطب الاجتماعي في جامعة برلين (ألفريد جروتيان Alfred Grotjahn) وأحد قادة رموز الحركة اليوجينية؛ يتذكر بشغف قراءته لكتاب بوشنر (المادة والقوة Force and Matter) في شبابه، والذي جرده من أي أثر لاعتقاد ديني. داروينية بوشنر المادية أثرت ليس فقط عليه وإنما على الكثير من معاصريه. يقول جروتيان –والمولود في 1869–: "مثل مئات الآلاف من الشباب انسابت الداروينية إلى فكري ونظفته من مفاهيم الغيبيات في سن حاسم في تطور رأيي عن العالم وحررتني لاستقبال آراء إيجابية عن القيم الأخلاقية لهذا العالم".(41) اعترف الكثير من العلماء والمثقفون الألمان باعترافات شبيهة عند مواجهتهم بالكتابات الداروينية الشهيرة خاصة كتابات هيكل وبونشر التي كانت حاسمة في تشكيل رؤيتهم للعالم.(42)
وبينما كان بوشنر يدافع عن المادية، التي يكون فيها العقل مجرد أداة للمادة، فإن هيكل سمى فلسفته الفلسفة الأحادية حيث كان يرى المادة والعقل متحدين بشكل معقد. عند هيكل حتى المواد غير الحية والكائنات وحيدة الخلية لها خصائص نفسية. وفي بعض الأحيان سمى هيكل مذهبه بوحدة الوجود التي اعتبرها مرادفًا للأحادية. كما اعترف أيضا أن وحدة الوجود تشبه الإلحاد تمامًا.(43) على أية حال، سواء كان مادية أو أحادية أو وضعية، كانت الرؤية الداروينية للعالم التي طورها هؤلاء وغيرهم من الداروينيين البارزين –وبالتأكيد معظم المفكرين الاجتماعيين الداروينيين– طبيعانية بالكامل؛ بمعنى أنها تناولت كل الظواهر بما فيها الدينية والأخلاقية والسلوك الإنساني كمنتج لمسببات طبيعية خاضعة لقوانين علمية.
ومهما اختلف هيكل وبوشنر وكارنيري وغيرهم من الداروينيين، إلا أنهم اتفقوا جميعًا على أن العمليات الطبيعية يمكنها تفسير كل جوانب المجتمع البشري وسلوك أفراده. بما في ذلك الأخلاق. رفضوا أية احتمالية لتدخل إلهي، وانهالوا سخرية على ثنائية الفكر والجسد، ورفضوا حرية الإرادة لصالح الجبرية المطلقة. بالنسبة لهم يمكن تفسير أي ظاهرة من ظواهر الكون بما فيها فكر الإنسان، والمجتمع والأخلاقيات عبر سبب وتأثير طبيعيين. وكنتيجة بديهية أصبحت العلوم الحكم على كل الحقائق، حتى الأخلاق والقيم لم تتمكنا من الهروب من أحكام وتصريحات العلوم.
معظم المفكرين الذين سأتناولهم في هذا الكتاب، إن لم يكن كلهم، اعتنقوا الرؤية الداروينية الطبيعانية للعالم تلك. بالطبع هناك الكثير من معاصريهم الذين قبلوا بصلاحية التطور للعمليات البيولوجية، ولكنهم رفضوا أي تأثير للداروينية على الدين والأخلاق والفكر الاجتماعي. وقد رسم علماء الدين الألمان خطًا فاصلًا صريحًا بين الله والطبيعة، بسبب سطوة الداروينية اللادينية وكتجاوب مع ظهور حركة نقد الإنجيل التي اعتنقوها، وبينما تنتمي الأخيرة للحقل العلمي، فإن الأولى تنتمي لعلم الأديان. جعل هذا العلوم الدينية حصينة ضد هجمة العلوم (ولكن أيضا أقل صلة بالعالم الحقيقي).(44) معظم الفلاسفة الألمان والكثير من الاجتماعيين جابهوا هجمة العلوم على مجالهم بنفس الطريقة، متبنيين طريقة الفيلسوف (ڤيلهيلم ديلتاي Wilhelm Dielthey) في التمييز بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. رفض ديلتاي وأتباعه بقوة تطبيق الطرق العلمية على العلوم الاجتماعية. واتفقوا في ذلك مع (چورچ موور G. E. Moore) أن أية محاولة لاستخراج الأخلاق من الطبيعة ما هي إلا ارتكاب "للمغالطة الطبيعانية".(45) ورغم هؤلاء المقاومون للرؤية الداروينية الطبيعانية للعالم، إلا أن الكثيرون اعتنقوها بحماسة بالغة، خاصة العلماء والأطباء. في الواقع كان صوت الداعمين للداروينية الطبيعانية بين العلماء والأطباء أقوى بكثير من صوت المعارضين لها. إذن الداروينيون الطبيعانيون هم من حاولوا تطبيق التطور البيولوجي على الأخلاق، وليس هؤلاء الرافضون لإمكانية تطبيقها، وهم من سنتناولهم في عملنا هذا.
يبرز إذن السؤال: هل تعتبر المستجدات الثقافية التي أرسمها في هذا العمل نتيجة لشيء دارويني بالأخص؟ أم هل ينبع من رؤية طبيعانية للعالم (سواء مادية أو أحادية)؟ هذا السؤال صعب؛ نظرًا للتعقيد الهائل في الروابط التاريخية بين الداروينية والطبيعانية. تشير بعض الدلائل التاريخية أن الداروينية قد لا تملك كل هذا التأثير على تنشيط الفلسفة الطبيعانية؛ ويمكن أن نعرض هذه الدلائل كالتالي: (1) ظهر نجم الطبيعانية قبل نشر داروين لنظريته (في ألمانيا نشر الماديون الثلاثة البارزين لودفيج بونشر، وكارل فوجت، وجاكوب مولشوت؛ معظم أعمالهم في العقد الخامس من القرن التاسع عشر). (2) الأمر المتعلق بأن معظم معتنقي الداروينية اعتنقوها بعد أن كانوا معتنقين للطبيعانية. (3) كثيرون اعتنقوا الداروينية دون اعتناقه الطبيعانية (مثل أتباع الكانتية الجديدة، ورجال الدين المسيحيين). بينما تشير هذه الدلائل إلى عدم ضرورة وجود علاقة بين الداروينية والمادية أو بينها وبين الأحادية (أحدهما يمكن أن تصلح بديلًا للآخر حال غيابه)، لكن ظهرت رغم هذا علاقات تاريخية قوية بين الداروينية والطبيعانية في أواخر القرن التاسع عشر في ألمانيا والتي قد تحتاج تفسيرًا. تلك العوامل التي تربط الاثنين تتضمن: (1) اعتنق معظم الماديين والأحاديين الداروينية بحماس واحتجوا أنها تدعم أفكارهم المادية أو الأحادية. (2) ذكر كثيرون أن الداروينية كانت العامل الأساسي في تحولهم إلى المادية أو الأحادية. (3) يحتج البيولوجيون الداروينيون والفلاسفة الأخلاقيون بصراحة بأن الداروينية تحوي فلسفة جبرية وبالتالي نظرة مادية للعقل.
تعكرت الصورة التاريخية أكثر بالحقيقة التي تقول أن بعض الأصوات المهمة في نشر الداروينية قالوا بالادعاء المثير للجدل أنهم لم ينشروا النظرية البيولوجية فحسب بل سعوا لنشر الفكر الدارويني بوجه عام. ورغم اعتناقهم لآرائهم الخاصة قبل تبنيهم للداروينية، كان ملائمًا أن يدعوا تأييد الداروينية لنظرياتهم. كيف يمكن إذن أن نفهم هذا الارتباك بل والتضاد بين الداروينية والغيبيات؟ أقترح أن استقبال الداروينية في القرن التاسع عشر تأثر بانتشار النموذج الطبيعاني تمامًا كما أثر فيه. وإذا درسنا هذا بشكل واقعي يمكن أن أؤكد أنه بدون الداروينية لزاد انتشار المادية في أواخر القرن التاسع عشر، ولكنها ستكون أقل إقناعَا، وبالتالي كان سيقل عدد تابعيها مما حدث بالفعل.(46)
وبرغم العلاقات القوية بين الداروينية والطبيعانية، مازال مناسبًا أن نعود للسؤال: أيهما أثرت مباشرة على الأخلاق ومنظومة القيم؛ الداروينية أم الطبيعانية؟ بعض الأفكار المتعلقة بالأخلاق التي أناقشها داروينية على وجه الخصوص، جالبة عناصر النظرية البيولوجيا كمسوغ... بعضهم لا يبدو أنه يحوي مضامين داروينية ولكنها تعتمد على مبادئ طبيعانية عامة. وبشكل مثير للانتباه يقول داروينيون كثر أن الداروينية تسوغ هذه المبادئ أيضًا، فالأمر ليس واضحًا بشكل قطعي.
ولأن الداروينية اخترقت الحركة اليوجينية في بداياتها، سنعرض في هذه الدراسة عددًا من اليوجينيين البارزين. فالأمر لا يتوقف على اعتناق كثير من الداروينيين البارزين لليوجينية، بل يمتد للقول بأن معظم اليوجينيين –في الواقع كل قادتهم المتقدمين– يعتبرون اليوجينية تطبيق واضح لمبادئ الداروينية على الأخلاق والمجتمع. (فرانسيس جالتون Francis Galton) –ابن عم داروين، ومؤسس اليوجينية الحديثة– طور فكرته خلال قراءته لكتاب أصل الأنواع، واعتمد زعماء اليوجينية الألمان أيضًا على مبادئ الداروينية بكثافة.(47) (ألفريد بلوتس Alfred Poletz) مؤسس كل من الجمعية الألمانية للصحة العرقية والتي تعد أول هيئة يوجينية على مستوى العالم، كما أسس أحد النشرات العلمية المخصصة لليوجينية، كان متأثرًا بشدة بهيكل في شابه. وأخبر صديقًا له في العام 1892 أن أفكاره الأساسية عن اليوجينيا مستقاة من الداروينية، وكان دائم المدح لهيكل بصفته المؤثر الرئيسي على أفكاره.(48) كما أخبر هيكل أن دوريته العلمية: ستقف إلى جانب الداروينية". الشيء الذي كان واضحًا من الإعلان الذي أرسله للمشتركين المحتملين، والذي كان مشبعًا بالمصطلحات الداروينية.(49) علاوة على ذلك أحد المحررين معه كان (لودڤيش بلايت Ludwig Plate)، وهو عالم حيوان دارويني حل محل هيكل عند تقاعده في أستاذيته في جامعة يينا. ليس عجيبًا إذن أن يوظف بلوتس القائدين الداروينيين البارزين في ألمانيا هيكل وڤايتسمان كعضوي شرف في جمعية الصحة العرقية التي أسسها 1905.
مسابقة جائزة كروب التي أقيمت لأول مرة 1900 واستمرت حتى 1903 ترسم بوضوح الرابط القوي بين الداروينية واليوجينية. رجل الصناعة (فريديريش كروب Fridrich Krupp) وأحد الهواة المتحمسين للطبيعانية موّل جائزة مجزية لأفضل إجابة بحجم كتاب عن السؤال: "ماذا نتعلم من مبادئ التطور البيولوجي فيما يتعلق بتطوير السياسة الداخلية وتشريعات الدول؟"(50) ساهم (هاينريش إيرنست تسايجلر Heinrich Ernst Zeigler) مع هيكل في رعاية هذه المسابقة، وهو عالم حيوان عمل معه في جامعة يينا، وكان واحدًا من المحكمين. الحصول على تلك الجائزة والتي تبلغ عشرة آلاف والتي كانت تشكل مبلغًا كبيرًا في ذلك الوقت كانت من نصيب (ڤيلهيلم شالماير Wilhelm Schallmayer) عن كتابه الوراثة والانتقاء والذي كتبه في العام 1903، ويعد هذا الكتاب توسعة لكتيبه اليوجيني السابق: تهديد الانحطاط الجسماني للشعوب المتحضرة (1891). اعتمدت يوجينية شالماير بقوة على النظرية الداروينية والتي سماها الاكتشاف الأعظم في القرن التاسع عشر.(51) وقد اعترف في خطاب كتبه ليوجينيٍّ آخر أن الرابط بين اليوجينية والداروينية شديد الرسوخ.(52)
لم يكن اليوجينيون مجرد داروينيين متحمسين، بل كان الكثير منهم مهتمًا بالموضوعات الأخلاقية. في الواقع كانت اليوجينية تحاول تطوير (أخلاقًا علمية) تبنى ظاهريًا على النظرية الداروينية. كتب شالماير في مقدمة كتابه الفائز بالجائزة: "لهذا الرأي (الداروينية) تأثير قوي على الأخلاقيات. هو لا ينتج فقط آراء جديدة حول أصل الأوامر الأخلاقية وتطورها وبالتالي بداية جديدة لهم، بل إنه يقود إلى المطالبة بتغيير جزئي في الآراء الأخلاقية السائدة في الوقت الحاضر".(53) وقد وافق يوجينييون كثيرون على ذلك كما سنرى لاحقًا.
ما هي الطريقة التي أثرت بها الداروينية على الفكر الأخلاقي؟ أولًا؛ أظهر داروين الفلسفات المادية والواقعية بصورة أكثر احترامًا عبر تقديم تفسيرات غير دينية للأخلاق. قبل داروين رفضت بعض النظريات الأخلاقية –أو قل تجاهلت– الأصل الديني للأخلاق (مثل آراء بانثام النفعية)، ولكن لم يستطع أحدهم تفسير وجود سجية أخلاقية أو ضمير لدى الإنسان، ولا حتى تفسير لماذا يتصرف البشر بإيثار. بعضهم افترض وجود الفضيلة، ولكن لم يستطع تقديم تفسير لأصلها. كانت على سبيل المثال توقع وجود الفضائل وبناء عليها استنتج وجود الإله، والفجور والإرادة الحرة، ولكن الداروينية قوضت فرضية كانت. ثانيًا ساهمت الداروينية في ظهور النظرة النسبية للأخلاق برفضها لأبدية الأخلاق وتجاوزها للحدود.
معظم الداروينيون يفسرون الأخلاق باعتبارها منتجًا للطبيعة، قابل للتطور الدائم مثل كل مظاهر الطبيعة. لم تنقش الأخلاق على ألواح الحجارة، ولكنها خطت على رمال الوقت دائم التغير. ثالثًا؛ أعطت الداروينية دفعة للرأي القائل بأن الفضائل عند الإنسان فطرية أو على الأقل مبنية على جانب فطري وليست منحة إلهية (كما تقول المسيحية) أو عملية منطقية (كما يقول كانت). رابعًا؛ آثّر كل من الانتقاء الطبيعي وصراع البقاء على نظرة الناس إلى الأخلاق. في دراسته عن الداروينية الاجتماعية قال (هانس يوأخيم كوخ Hannsjoachim Koch): "إن مفهوم الانتقاء الطبيعي له تأثير كبير على معاصري الداروينية أكبر من تأثير فكرة التطور؛ فالانتقاء الطبيعي... يستدعي السؤال عن صلاحية المبادئ الأخلاقية الحالية في جميع جوانب الحياة، سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية".(54) أخيرًا؛ مفهوم الداروينية المختلف عن طبيعة الإنسان وقيمة الحياة، والذي يحمل أثرًا أخلاقيًا (وسياسيًا واجتماعيًا) بعيد المدى. لنبحث إذن هذه النقطة الأخيرة بشكل أعمق؛ ما الذي يوجد في الداروينية ويجعلها تنتج تغييرًا كبيرًا على النظرة لقيمة الحياة؟
أولًا "تتضمن الداروينية فكرة أن الإنسان ظهر من الحيوان، وقد فسر كثيرون هذا بأن الإنسان ليس له تلك المكانة الخاصة التي تشير إليها الثقافة اليهودية والمسيحية. فبدلًا من أن يكون مخلوقًا على صورة الرب وأن يكون كريم الأصل، فقد تطور الإنسان عن قرد. ولتفسير تطور العقل والسمات الإنسانية عن الحيوان، رفض داروين وكذا معظم الداروينيين فكرة أن الروح أبدية غير مادية (وهي الفكرة المركزية في كل من الثقافة اليهودية والمسيحية والتي تؤصل لقدسية الحياة).(55)
ثانيًا: أكدت الداروينية على التنوع داخل الأنواع، والذي يوحي بعدم التساوي البيولوجي. وبتطبيق هذا على الإنسان استخدم كثير من البيولوجيين والأنثروبولوجيين والمفكرين الاجتماعيين الداروينية لتبرير عدم التساوي الاجتماعي والعنصري.
ثالثًا: انبنى الانتقاء الطبيعي وصراع البقاء في نظرية داروين على مبدأ مالتوس Malthus السكاني، كما أشار إلى أن الموت بدون نسل طبيعي في الحياة العضوية، ولهذا فموت عدد من الكائنات (غير الصالحة) مفيد وحاضن للتقدم. كانت العادة أن نظرة الأوروبيين للموت شر يجب التغلب عليه، وليس قوة نافعة. ولكن داروين رأى بعض الخير في ذلك الشر. في خاتمة كتابه (أصل الأنواع)، كتب داروين: "لذا، من حرب الطبيعة، من المجاعة والموت، نستطيع أن نتصور أعظم هدف؛ ألا وهو إنتاج حيوانات من رتبة أعلى تتبع هذا الموت مباشرة".(56) لم تكن نظرية داروين عن الانتقاء الطبيعي فحسب، بل كانت تتعلق بالحياة والموت.
نظرية داروين إذن تطرح عدة مواضيع أساسية تتقاطع مع التعاليم الدينية التقليدية، بما فيها أصل الأخلاق، وتكوين منظومة القيم، ومعنى الحياة والموت. ركزت كثير من الدراسات الحديثة عن استقبال رجال الدين لنظرية داروين على مسألة التكيف، حيث كان كثير من رجال الدين المسيحيين والرهبان بما فيهم أصحاب الاتجاه المحافظ على استعداد لاعتناق صورة من صور نظرية التطور.(57) ولكن دراستي تلقي الضوء على لماذا كان النقاش حول الداروينية لاذعًا في بعض الأحيان. كما تذكرنا أنه بغض النظر عن تقبل بعض الرموز الدينية البارزة لنظرية التطور، فإن رموزًا داروينية بارزة لم تتقبل الدين. الكثير منهم لم يكتفي باستخدام الداروينية لمحاربة الفهم التقليدي المسيحي عن المعجزات والغيبيات، بل إنهم قوضوا الكثير من القيم المسيحية التي كانت قيمتها محصنة في الثقافة الأوروبية. وكما لاحظ (ديتليف بويكارت Detlev Peukert) أنه بالنسبة لكثير من المتعلمين الألمان في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين استبدلوا الدين بالعلم " كمصدر ميثولوجي خالق للمعاني".(58)
في الفصول الثلاثة الأولى من الكتاب سندرس الطرق التي حاولت بها الداروينية تفسير الأخلاق ومنظومة القيم بوجه عام. ثم سنعرج على القيمة الأخلاقية الأكثر خصوصية؛ قيمة الحياة، لنبحث عن كيف استطاعت الداروينية أن تقلل من قيمة الحياة، خاصة حياة المعاقين وغير الأوربيين. أما الفصل الأخير سأوضح فيه كيف ساهمت تلك الأفكار في تطوير أيدولوجيات هتلر.
1. Adam Sedgwick to Charles Darwin, November 24, 1859 [in some works this letter is misdated as December 24, 1859], in The Correspondence of Charles Darwin, vol. 7: 1858-1859 (Cambridge, 1991), 397. I have added punctuation to the original.
2. Rudolf Schmid, Die Darwinischen Theorien (Stuttgart, 1876), 3.
3. Robby Kossmann, "Die Bedeutung des Einzellebens in der Darwinistischen Weltanschauung," Nord und Süd 12 (1880): 420-1. Emphasis is mine.
4. The Haeckel-to-Hitler (and Haeckel-to-Fascism) thesis is pursued relentlessly by Daniel Gasman in The Scientific Origins of National Socialism (London, 1971), and Haeckel's Monism and the Birth of Fascist Ideology (New York, 1998). Gasman's work is not highly regarded by most historians, and with good cause. However, other scholars have linked social Darwinism to Hitler in a more rea¬sonable fashion: Mike Hawkins, Social Darwinism in European and American Thought (Cambridge, 1997), ch. 11; Richard J. Evans, "In Search of German Social Darwinism: The History and Historiography of a Concept," in Medicine and Modernity (Washington, 1997), 55-79; Peter Emil Becker, Wege ins Dritte Reich, (vol. 1: Zur Geschichte der Rassenhygiene; vol. 2: Sozialdarwinismus, Rassismus, Antisemitismus und volkischer Gedanke) (Stuttgart, 1988-90); Jürgen Sandmann, "Ansätze einer biologistischen Ethik bei Ernst Haeckel und ihre Auswirkungen auf die Ideologie des Nationalsozialismus," in Heilen¬Verwahren—Vernichten, ed. G. Wahl and W. Schmitt (Reichenbach, 1997), 83-92; Jürgen Sandmann, Der Bruch mit der humanitären Tradition (Stuttgart, 1990); Günter Altner, Weltanschauliche Hintergründe (Zürich, 1968), chs. 1-2; Mario di Gregorio, "Entre Mephistophdks et Luther: Ernst Haeckel et la reforme de l'univers," in Darwinisme et Sociiti, ed. Patrick Tort (Paris, 1992), 237-83; C. Vogel, "Rassenhygiene—Rassenideologie—Sozialdarwinismus: die Wurzeln des Holocaust," in Dienstbare Medizin (Göttingen, 1992), 11-31; Gerhard Baader, "Sozialdarwinismus—Vernichtungsstrategien im Vorfeld des Nationalsozialismus," in "Bis endlich der langersehnte Umschwung kam . . ." (Marburg, 1991), 21-35.
5. Hans-Günter Zmarzlik, "Social Darwinism in Germany, Seen as a Historical Problem," in Republic to Reich: The Making of the Nazi Revolution, ed. Hajo Holborn, trans. Ralph Manheim (New York, 1972), 466; Peter Weingart, Jürgen Kroll, and Kurt Bayertz make very similar statements about Darwinism and ethics in Rasse, Blut, und Gene (Frankfurt, 1988), 16-18.
6. Evans, "In Search of German Social Darwinism," 55-79. The revisionist receiving mach of his criticism is Alfred Kelly, The Descent of Darwin (Chapel Hill, 1981).
7. Marx to Engels, December 19, 1860, in Marx—Engels Werke (Berlin, 1959 ff.), XXX: 131. For more on the socialist reception of Darwinism in Germany, see Richard Weikart, Socialist Darwinism (San Francisco, 1999); Kelly, Descent of Darwin, ch. 7; Ted Benton, "Social Darwinism and Socialist Darwinism in Germany: 1860 to 1900," Rivista di filosofia 73 (1982): 79-121; Kurt Bayertz, "Naturwissenschaft und Sozialismus. Tendenzen der Naturwissenschaft-Rezeption in der deutschen Arbeiterbewegung des 19. Jahrhundert," Social Studier of Science 13 (1983): 355-94; Hans-Josef Steinberg, Sozialismus und deutsche Sozialdemokratie (Hanover, 1967), ch. 3.
8. Atina Grossmann, Reforming Sex (New York, 1995), vii. On the German social¬ists' receptivity to eugenics, see Michael Schwartz, Sozialistische Eugenik (Bonn, 1995); and Doris Byer, Rassenhygiene und Wohlfahrtspflege (Frankfurt, 1988).
9. Steven E. Aschheim, In Times of Crisis (Madison, 2001), 111.
10. Kevin Repp, Reformers, Critics, and the Paths of German Moderne, 1890-1914 (Cambridge, MA, 2000), 322; Paul Weindling also shows the ambiguities of eugenics, which promoted social reform, but also increased the authoritarian social control of health professionals, laying the groundwork for Nazi health measures; see Weindling, Health, Race and German Politics (Cambridge, 1989). Richard F. Wetzell shows similar ambiguities among criminologists in Inventing the Criminal (Chapel Hill, 2000).
11. Repp, Reformers, 130. Geoff Eley makes a similar point in the introduction to Society, Culture, and the State in Germanys 1870-1930, ed. Geoff Eley (Ann Arbor, 1996), 14.
12. Andrew Zimmerman, Anthropology and Antihumanism in Imperial Germany (Chicago, 2001), 10-11, 242-5; see also Pascal Grosse, Kolonialismus, Eugenik und Bürgerliche Gesellschaft in Deutschland, 1850-1918 (Frankfurt, 2000), who shows how eugenicists' influence on colonial policy linked to the rise of the Nazi racial state (though he denies it is a straight line from one to the other).
13. Heinz-Georg Marten does, however, trace the some connections between Social Darwinism, racism, and anti-Semitism in "Racism, Social Darwinism, Anti-Semitism and Aryan Supremacy," International Journal of the History of Sport 16, 2 (1999): 23-41.
14. For more on Jews' involvement in race science, see John Efron, Defenders of the Race (New Haven, 1994).
15. Sheila Faith Weiss, Race Hygiene and National Efficiency (Berkeley, 1987), 158; see also Weiss, "The Race Hygiene Movement in Germany" Osiris, 2nd series, 3 (1987): 236; Detlev Peukert, "The Genesis of the 'Final Solution' from the Spirit of Science," in Reevaluating the Third Reich, ed. Thomas Childers and Jane Caplan (New York, 1993); Christian Pross and Götz Aly, eds., Der Wert des Menschen (Berlin, 1989); Weingart et al., Rasse, Blut, und Gene.
16. Renate Bridenthal et al., eds., When Biology Became Destiny: Wanzen in Weimar and Nazi Germany (New York: Monthly Review Press, 1984).
17. Many scholars discuss the complex issue of Nazism and modernity, but see especially Michael Burleigh and Wolfgang Wippermann, The Racial State: German» 1933-1945 (Cambridge, 1991); Norbert Frei, "Wie modern war der Nationalsozialismus," Geschichte und Gesellschaft 19 (1993): 367-87; Jeffrey Herf, Reactionary Modernism (Cambridge, 1984); Zygmunt Bauman, Modernity and the Holocaust (Ithaca: Cornell University Press, 1989); Michael Prinz and Rainer Zitelmann, eds., Nationalsozialismus und Modernisierung (Darmstadt, 1991); Richard Rubenstein, "Modernization and the Politics of Extermination," in A Mosaic of Victims, ed. Michael Berenbaum (New York, 1990), 3-19; and Rainer Zitelmann, Hitler: Selbstverständnis eines Revolutionärs (Hamburg, 1987). Mitchell G. Ash, Gestalt Psychology in German Culture, 1880-1967, Holism and the Qauest for Objectivity (Cambridge, 1995), and Anne Harrington, Reenchanted Science: Holism in German Culture from Wilhelm II to Hitler (Princeton, 1996), both show that scientific thought in early-twentieth-century Germany contained ambiguities in relation to modernity and rationalism.
18. Michael Burleigh, "The Legacy of Nazi Medicine in Context," in Medicine and Medical Ethics in Nazi Germany, ed. Francis Nicosia and Jonathan Huener (New York, 2002), 119.
19. Fritz Lenz, Die Rasse als Wertprinzip, Zur Erneuerung der Ethik (Munich, 1933), 39, 7.
20. Adolf Hitler, Mein Kampf 2 vols. in 1 (Munich, 1943), 420-1. Emphasis is mine.
21. lan Kershaw in his magisterial biography of Hitler repeatedly mentions social Darwinism as a key component of Hitler's world view; see Hitler, 2 vols. (New York, 1998-2000), 1:78, 134-7, 290; 2:19, 208, 405, 780; Eberhard Jäckel also sees the Darwinian racial struKle as an important part of Hitler's ideology in Hitler's Weltanschauung (Middleton, CN, 1972), ch. 5; Brigitte Hamann discusses Darwinian racial thought in Hitler's Viennese milieu in Hitler's Vienna (New York, 1999), 82, 84, 102, 202-3. See also Burleigh and Wippermann, The Racial State, ch. 2.
22. Hamann, Hitler's Vienna, 233; Joachim Fest, Hitler, trans. Richard and Clara Winston (New York, 1974), 54, likewise calls Hitler's social Darwinism pseudoscientific. Gasman in Scientific Origins and Haeckel's Monism makes a similar move by distancing Haeckel from Darwin (and by wrongly portraying Haeckel's philosophy as mystical and vitalistic).
23. For example, Robert Proctor, Racial Hygiene: Medicine under the Nazis (Cambridge, 1988); Ute Deichmann, Biologists under Hitler (Cambridge, MA, 1996); Benno Müller-Hill, Murderous Science (Oxford, 1988). Michael Burleigh shows an awareness of this problem when he recently stated that "we may be overstating Nazism as an aberrant branch of the scientific imagination, thereby overlooking the extent to which even the scientists were informed by what might be described as historical fantasizing" (Burleigh, "The Legacy of Nazi Medicine in Context," 119).
24. Richard Weikart, "Progress through Racial Extermination: Social Darwinism, Eugenics, and Pacifism, 1860-1918," German Studies Review 26 (2003): 273-94.
25. Quoted in Friedrich Hellwald, Naturgeschichte des Menschen, 2 vols. (Stuttgart, 1880), 1:66.
26. Ian Dowbiggin, A Mercifid End (Oxford, 2003), 8.
27. N. D. A. Kemp, "Mercifid Release" (Manchester, 2002), 19.
28. Greta Jones, Social Darwinism and English Thought (Sussex, 1980); Hawkins, Social Darwinism in European and American Thought; Daniel J. Kevles, In the Name of Eugenics (Berkeley, 1985); Diane B. Paul, Controlling Human Heredity, 1865 to the Present (Atlantic Highlands, NJ, 1995); Gunnar Broberg, and Nils Roll-Hansen, eds., Eugenics and the Welfare State (East Lansing, MI, 1996); Nancy Stepan, "The Hour of Eugenies", Race, Gender and Nation in Latin America (Ithaca, NY, 1991); William H. Schneider, Quality and Quante (Cambridge, 1990); Frank Dikötter, Imperfect Conceptions (New York, 1998).
29. Quoted in Paul, Controlling Human Heredity, 17 ; Phillip Gassert and Daniel S. Mattem, eds. The Hitler Library: A Bibliography (Westport, CT, 2001).
30. Stefan Kühl, The Nazi Connection (Oxford, 1994).
31. The Lift and Letters of Charles Darwin, ed. Francis Darwin (New York, 1919), 2:270.
32. David Friedrich Strauss, Der alte und der neue Glaube (Leipzig, 1872); Friedrich Albert Lange, Die Arbeiterfrage in ihrer Bedeutungftir Gegenwart und Zukunft (Duisburg, 1865; rprt. Duisburg, 1975).
33. Ludwig Woltmann, Die Darwinsche Theorie und der Sozialismus (Düsseldorf, 1899). For a more precise definition of social Darwinism, see Hawkins, Social Darwinism in European and American Thought, ch. 1. For a more restricted definition, see Kurt Bayertz, "Darwinismus als Politik: Zur Genese des Sozialdarwinismus in Deutschland 1860-1900," in Welträtsel und Lebenswunder (Linz, 1998), 241.
34. Richard Goldschmidt, Portraits ftom Memo?), (Seattle, 1956), 34.
35. Quoted in Jürgen Sandmann, "Ernst Haeckels Entwicklungslehre als Teil seiner biologistischen Weltanschauung," in Die Rezeption von Evolutionstheorien im 19. Jahrhundert, ed. Eve-Marie Engels (Frankfurt, 1995), 330.
36. Ernst Haeckel, Natürliche Schöpfungsgeschichte (Berlin, 1868), 16, 125-8, 206; some scholars wrongly claim that because Haeckel was a Lamarckian, he rejected natural selection-see Peter Bowler, The Non-Darwinian Revolution (Baltimore, 1988), 83; and Britta Rupp-Eisenreich, "Le darwinisme social en Allemagne," in Darwinisme et Sociitd, ed. Patrick Tort (Paris, 1992), 169-236. Probably the most balanced portrait of Haeckel is Erika Krausse, Ernst Haeckel, 2nd ed. (Leipzig, 1984).
37. Haeckel, Natürliche Schöpfungsgeschichte, 5, quote at 487.
38. Ernst Haeckel to Charles Darwin, February 9, 1879, in Georg Uschmann, Ernst Haeckel Biographie in Briefen (Gütersloh, 1983), 156.
39. For one example, see Haeckel, Die Welträthsel, Volksausgabe (Bonn, 1903), 11.
40. Ludwig Büchner to Hermann Schaffhausen, July 11, 1863, in Autographen, S 2620a, Handschriftenabteilung, University of Bonn Library; see also Büchner, Der Mensch und seine Stellung, 2nd ed. (Leipzig, 1872), 5-6.
41. Alfred Grotjahn, Erlebtes und Erstrebtes (Berlin, 1932), 44.
42. Heinrich Schmidt, ed., Was wir Ernst Haeckel verdanken, 2 vols. (Leipzig, 1914); Kelly, Descent of Darwin.
43. Ernst Haeckel, Der Monismus als Band zwischen Religion und Wissenschaft (Bonn, 1892), 10; Haeckel, Die Welträthsel, 116-17. Gasman incorrectly inter¬prets Haeckel's pantheism as mystical in Scientific Origins of National Socialism, xiii–xiv; and Haeckel's Monism and the Birth of Fascist Ideology, 15, 34. Niles Holt also stresses Haeckel's pantheistic side in "Ernst Haeckel's Monistic Religion," Journal of the History ofldeas 32 (1971): 265-80. Gasman's Position is odd, since Haeckel devoted an entire speech to the annual Monist Congress in 1913 to voice his antipathy to mysticism—see Ernst Haeckel, "Monismus und Mystik," in Der Düsseldorfer Monistentag, ed. Wilhelm Blossfeldt (Leipzig, 1914), 93-8. Jürgen Sandmann not only interprets Haeckel's monism as essen¬tially materialistic, but notes that almost all the secondary literature follows this line—see Sandmann, Der Bruch mit der humanitären Tradition, 52, 60-1. An excellent discussion of the tension in Haeckel's thought between materialism and pantheism is 0. Breidbach, "Monismus um 1900—Wissenschaftspraxis oder Weltanschauung?" in Welträtsel und Lebenswunder: Ernst Haeckel—Werk, Wirkung, und Folgen, ed. Erna Aescht et al. (Linz, 1998), 289-316. For further discussion of this issue, see Richard Weikart, " 'Evolutionäre Aufklärung'? Zur Geschichte des Monistenbundes," in Wissenschaft, Politik, und Öffentlichkeit, ed. Mitchell G. Ash and Christian H. Stifter (Vienna, 2002), 131-48.
44. Frederick Gregory, Nature Lost? Natural Science and the German Theological Traditions of the Nineteenth Century (Cambridge: Harvard University Press, 1992).
45. On Dilthey, see Rudolf A. Makkreel, Dilthey: Philosopher of the Human Studies (Princeton: Princeton University Press, 1992); on neo-Kantianism, see Klaus Christian Köhnke, The Rise of Neo-Kantianism (Cambridge, 1991).
46. Annette Wittkau-Horgby, Materialismus (Göttingen, 1998), chs. 7-8, concurs with my view.
47. Weindling, Health, Race and German Politics; Weingart et al., Rasse, Blut, und Gene.; Paul, Controlling Human Heredity, ch. 2; Kevles, In the Name of Eugenics; Becker, Wege ins Dritte Reich.
48. Alfred Ploetz to Carl Hauptmann, January 14, 1892, in Carl Hauptmann papers, K 121, Akademie der Künste Archives, Berlin; Alfred Ploetz to Ernst Haeckel, April 18, 1902, in Ernst Haeckel papers, Ernst-Haeckel-Haus, Jena; for more on Ploetz, see W. Doeleke, "Alfred Ploetz (1860-1940): Sozialdarwinist und Gesellschaftsbiologe," dissertation, University of Frankfurt, 1975.
49. Alfred Ploetz to Ernst Haeckel, October 19, 1903, in Alfred Ploetz papers, pri¬vately held by Wilfried Ploetz, Herrsching am Ammersee; "Aufforderung zum Abonnement. Archiv für Rassen- und Gesellschafts-Biologie," August 1903, in Felix von Luschan papers (among Alfred Ploetz's letters), in Staatsbibliothek Preussischer Kulturbesitz, Berlin.
50. Heinrich Ernst Ziegler, "Einleitung zu dem Sammelwerke Natur und Staat," in Natur und Staat, vol. 1 (bound with Heinrich Matzat, Philosophie der Anpassung) (Jena, 1903), 1-2; Klaus-Dieter Thomann and Werner Friedrich Kümmel, "Naturwissenschaft, Kapital und Weltanschauung: Das Kruppsche Preisausschreiben und der Sozialdarwinismus," Medizinhistorisches Journal 30 (1995): 99-143, 205-43. Sheila Faith Weiss provides a good discussion of the Krupp Prize competition in Race Hygiene and National Efficiency, 64-74.
51. Wilhelm Schallmayer, Vererbung und Auslese ( Jena, 1903), ix–x.
52. Wilhelm Schallmayer to Alfred Grotjahn, June 3, 1910, in Alfred Grotjahn papers, Humboldt University Archives, Berlin; Schallmayer makes a similar claim in "Rassedienst," Sexual-Probleme 7 (1911): 547.
53. Schallmayer, Vererbung und Auslese, ix–x; see also Schallmayer, Beiträge zu einer Nationalbiologie (Jena, 1905), 124.
54. Hannsjoachim W. Koch, Der Sozialdarwinismus Denken (Munich, 1973), 64.
55. For a good philosophical discussion of the implications of body–soul dualism for biomedical ethics, see J. P. Moreland and Scort Rae, Body and Soul: Human Nature and the Crisis in Ethics (Downers Grove, IL, 2000).
56. Darwin, The Origin of Species (London: Penguin, 1968), 459.
57. Works stressing accommodationism include David N. Livingstone, Darwin's Forgotten Defenders (Grand Rapids, 1987); James R. Moore, The Post¬Darwinian Controversies (Cambridge, 1979); while rejecting the warfare thesis, some scholars rightly caution against overreacting—see John Hedley Brooke, Science and Religion: Some Historical Perspectives (Cambridge, 1991); Holmes Rolston III, Science and Religion: A Critical Survey (Philadelphia, 1987); David Lindberg and Ronald Numbers, eds., God and Nature (Berkeley, 1986); David N. Livingstone, D. G. Hart, and Mark A. Noll, eds., Evangelicals and Science in Historical Perspective (New York, 1999).
58. Peukert, "The Genesis of the 'Final Solution' from the Spirit of Science," 240, 247.