مقدمة الطبعة الأولى
فيزياء الكوانتم؛ هي النظرية التي تقوم عليها جميع معرفتنا الحالية تقريبًا عن الكون. ومنذ نشأتها −منذ أكثر من ستين عامًا− اتسع نطاقها لتفسر بنجاح سلوك الجسيمات تحت الذرية، وخصائص أنوية الذرات، وبنية الجزيئات والمواد الصلبة وخصائصها. وظلت نظرية الكوانتم حتى الآن −على الرغم من نجاحاتها− مسكونةً بمشكلات فكرية وفلسفية أدت إلى صعوبة فهمها وجعلت قبولها عسيرًا.
أثناء دراستي للفيزياء منذ نحو خمسة وعشرين عامًا، كان أحد الأسباب الرئيسة لإعجابي بالكوانتم هو الفجوة الفكرية الكبيرة بينها وبين طريقتنا العادية في النظر إلى الكون. كنا −نحن الطلاب− في حيرة حول هذا الأمر، وكانت الأولوية عند معلمينا وأساتذتنا هي التطبيق النظري للكوانتم لتفسير الظواهر الفيزيائية. وكان من الصعب أن نجد كتبًا تناقش الجوانب الفكرية لهذا الموضوع؛ أو على الأقل تلك التي تناقش مشكلات الكوانتم بعقلانية وإنصاف ويُسر.
ثم أتيحت لي فرصة تدريس ميكانيكا الكوانتم لطلاب المرحلة الجامعية بعد ذلك بنحو عشرين عامًا، فحاولت أن أضع في المادة العلمية بعض الإشارات إلى الجوانب الفكرية للنظرية ومشكلاتها. وعلى الرغم من وجود العديد من المراجع والمصادر فإن معظمها كان كتبًا متخصصة نوعًا ما، وكانت صعبة على غير المتخصصين.
ومع ازدياد خبرتي زادت قناعتي أن شرح المشكلات الفكرية في نظرية الكوانتم ممكنٌ؛ دون اشتراط الفهم الشامل للمساحات الواسعة من علم الفيزياء المتعلقة بها، وبدون الإلمام بالرياضيات المعقدة التي يراها المتخصصون مفيدةً للغاية. وهذا الكتاب هو محاولتي للوصول إلى هذا الهدف.
تناقش الفصول الأربعة الأولى من هذا الكتاب الأفكار الأساسية لنظرية الكوانتم، وتصف المشكلتين الرئيستين فيها:
مشكلة "اللامحلية"؛ والمقصود بها أن الأجزاء المختلفة من نظام ما تتبادل التأثير، حتى في حالة تباعدها وحتى في حالة عدم وجود أي تواصل معلوم بينها.
ومشكلة "القياس"؛ التي تنشأ من الفكرة التي تقول إن الأنظمة الكوانتية لا تتصف بصفاتها إلا عندما تقاس هذه الصفات؛ على الرغم من أنه لا يوجد شيء ما يقع خارج نطاق فيزياء الكوانتم −كما يبدو− لكي يقوم بهذا القياس.[1]
وتناقش الفصول التالية من الكتاب الحلول المختلفة المقترحة لحل هاتين المشكلتين. ويتحدى كل حل من هذه الحلول بطريقة ما نظرتنا التقليدية للكون، وكثير من لوازم هذه الحلول والنظريات غير قابل للتصديق. ولم يقع اتفاق أو إجماع في هذا المجال بوجه عام.
وأما الفصل الأخير فيلخص وجهات النظر المختلفة، وأعرض فيه رأيي وموقفي الشخصي.
أود أن أشكر كل من ساعدني في تأليف هذا الكتاب؛ لاسيما «سايمون كابلن Simon Capelin»، و«كولين كوف Colin Gough»، و«كريستوفر إيشام Christopher Isham»؛ الذين قرأوا مُسَوَّدة الكتاب ونقدوها نقدًا بناءً كثيرًا. وقد أفدتُ كثيرًا أيضًا من المناقشات التي دارت مع الحضور في إحدى المحاضرات التي ألقيتها تحت رعاية "قسم الفصول الخارجية" في «جامعة برمنغهام University of Birmingham»، وإنني ممتنٌّ بشدة لاقتراحاتهم حول توضيح «مبرهنة بيل Bell’s Theorem» الواردة في الفصل الثالث.
وأود أيضًا أن أشكر شكرًا خاصًا «جودي آستل Judy Astle» التي صفَّت الكتاب وتعاونت وصبرت على كثرة التعديلات والتنقيحات.
أليستر راي، ١٩٨٦
[1] المقصود هنا −كما سيتضح لاحقًا−، أن عملية القياس هذه إما أن تخضع لقوانين الكوانتم أو لا. فإن كانت تخضع لها فيلزم أن أجهزة القياس لن تتصف بصفاتها (كإصدار صوت أو إضاءة مصباح) إلا إذا قيست هذه الصفات أيضًا، فأين تنكسر السلسلة إذن؟ ولو قيل إنها لا تخضع لقوانين الكوانتم فمعنى هذا أن وصف النظرية للكون غير مكتمل، وهذا يرفضه أكثر الفيزيائيين. (المترجم)
مقدمة الطبعة الثانية
كنت أهدف أثناء الإعداد لهذه الطبعة الثانية إلى تبسيط البحث وتوضيحه قدر الإمكان −من غير تمييع محتواه− وتحديث المتن في ضوء التطورات العلمية في السنوات السبعة عشرة الأخيرة. ويمثل الفصل الثالث مثالاً جيدًا على هذين الهدفين حيث بحثنا "اللامحلية" وعلى وجه التحديد «مبرهنة بيل Bell's Theorem». فأصبح إثبات المبرهنة أبسط بشكل ملحوظ، دون إنقاص من صلاحيته في اعتقادي. كما أشرت إلى عدد من التجارب المهمة التي أجريت خلال العقد الأخير من القرن العشرين.
وأود أن أشكر «ليف فايدمان Lev Vaidman»، حيث نبهني على عدم إنصافي في بعض النقد الذي وجهته إلى نظرية «الأكوان المتعددة Many worlds». وأشكره كذلك على محاولاته هو و«سيمون ساندرس Simon Saunders» لمساعدتي في فهم الكيفية التي تعاملت بها النظرية مع مشكلة "الاحتمالات". وفي ضوء ذلك أعدت كتابة جزء كبير من الفصل السادس؛ ولكنني لا أظنهما سيتفقان معي في نتيجته.
كما راجعت الفصل السابع للأخذ في الحسبان نموذج «الانهيار التلقائي Spontaneous Collapse» الذي طوره «جيانكارلو غيرارد Giancarlo Ghirardi» و«ألبرتو ريمني Alberto Rimini» و«توليو ڤيبر Tullio Weber». كما راجعنا بعضًا من التجارب الأخيرة المهمة في هذا المجال.
وأصبح هناك تطور ملحوظ في شرح "اللاانعكاسية" في الفصل الثامن والتاسع والعاشر. فبينما تركتُ الفصل التاسع كما هو تقريبًا −حيث ناقشت فيه الأفكار العلمية السائدة في الثمانينيات− فقد تعاملتُ في الفصل العاشر من هذه الطبعة الجديدة مع التطورات العلمية الأخيرة منذ ذلك الحين.
إن هذه الطبعة قد تحسنت كثيرًا، وذلك بفضل توجيهات «كريستوفر تيمبسون Christopher Timpson» وملاحظاته، الذي قرأ المُسَوَّدة وناقشها وانتقدها بعين الفيلسوف الخبير؛ ولابد أنه سيلاحظ الكثير من اقتراحاته وتعديلاته. ولابد كذلك أن أعبر عن امتناني للمناقشات النافعة التي جرت مع المستمعين والحضور في مؤتمرات "أسس الفيزياء" السنوية التي تُعقد في المملكة المتحدة. وأشير على وجه الخصوص إلى «يُوِن سكوايرز Euan Squires»، الذي فقد مجتمع "أسس الفيزياء" بوفاته عام ١٩٩٦ عقلاً ناقدًا وصديقًا جيدًا للكثيرين منا. واستفاد الكتاب في مرحلة التحرير استفادة كبيرة من ملاحظات «سوزان باركنسون Susan Parkinson» الثاقبة ونقدها البناء.
وإنني مسؤول بالطبع عن الأخطاء والغلطات الباقية في الكتاب.
أليستر راي، ٢٠٠٤