لماذا هذا الكتاب؟!
بلغة واضحة، وأسلوب شيق، واستدلالات صلبة، يمزق بيهي الفكرة الرئيسية للتطور الدارويني؛ فكرة أن الكون عشوائي.
حين نشر مايكل بيهي كتابه الأول (صندوق داروين الأسود)، انطلقت مرحلة جديدة لحركة التصميم الذكي، وانطلق معها ضجيج مرتفع من النقاد. ومع ذلك اقتنع مئات الآلاف من القراء، وعدد متزايد من العلماء، بما أسس له بيهي في كتابه من أن الداروينية لا تستطيع شرح آلية عمل الخلية المعقدة. والآن، في هذا الكتاب الذي طال انتظاره، يطرح بيهي أكثر من مجرد تحد للداروينية؛ حيث يطرح الدليل المباشر الأول لمسارات طفرات الطبيعة؛ والذي سيعيد تعريف المناظرة حول الداروينية بشكل كامل.
ما القدر الذي يمكن لنظرية داروين شرحه لنا عن الحياة؟ يؤمن أكثر العلماء اليوم أنها قادرة على شرح كل شيء، من آلية عمل الخلية إلى تاريخ الحياة على الأرض مرروا بالعقل والأخلاق والتنوع العرقي للبشر، بل إن أفكار داروين امتدت لتصل إلى مجالات الثقافة والسياسة والقانون. ولكن الآن فقط سمح لنا العلم، علم الوراثة تحديدا، بالحصول على دليل مباشر يمكننا من فحص النظرية. حيث تم تتبع جينوم العديد من الكائنات، وتم تحليل آلية عمل الخلية بتفاصيل دقيقة.
النتائج صادمة، الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي يشرحان القليل جدا من آلية عمل الحياة، وبالتالي فحافة التطور؛ الحد الفاصل بين الطفرات العشوائية وغير العشوائية، يقع بعيدا جدا عما أشار إليه داروين. أظهر بيهي أن بناء العديد من القواعد البيولوجية المعقدة، بل وحتى البروتينات، تتطلب على الأرجح العديد من الطفرات المنسقة. وإذا كنا بحاجة لطفرتين فأكثر، لتفسير ظهور أحد الأشياء، فلا يوجد لدينا لا الوقت ولا عدد الكائنات الكافي لظهور الطفرتين بشكل متناسق. بعبارة أخرى، أثبت بيهي بالأدلة العملية استحالة تفسير الطفرات العشوائية لظهور ما يحتاج لطفرتين فما أكثر.
ليس فقط أن الطفرات العشوائية لا تملك تفسيرًا لظهور التعقيد المشاهد في الحياة، وليس فقط أن دورها محدود لأقصى درجة ممكنة، بل إن ما توصل إليه العلم الآن عن أسلوبها في العمل، يؤكد على أن معدل الطفرات التي تضيف وظيفة عن طريق كسر شيء ما أكبر بمئات المرات من تلك التي تضيف وظيفة عن طريق القيام بشيء جديد. بمعنى أنه لو كان الأمر متروكا بالكامل للطفرات العشوائية، لتدمرت الحياة قبل أن تبدأ. وبالطبع، لا نحتاج للقول أن التفسير الآخر الذي يتبناه بيهي لنشأة التعقيد الحيوي هو التصميم الذكي، وقد توسع في عرض أفكاره عن التصميم الذكي في كتابه (صندوق داروين الأسود)، واكتفى في هذا الكتاب بالبناء على ما قدمه من قبل.
يستحق عمل بيهي في هذا الكتاب كامل التقدير والاحترام والثناء، ومع ذلك، لكل جواد كبوة، وكبوة بيهي في هذا الكتاب، هو التوسع في قبول مفهوم الانحدار المشترك.
من الناحية النظرية، لا تتعارض نظرية التصميم الذكي مع فكرة الانحدار المشترك لكافة الكائنات الحية على الأرض من سلف مشترك عام. يقول ديمبسكي: "القضية الرئيسية ليست في القرابة بين كل الكائنات الحية... القضية الرئيسية هي كيف نشأ التعقيد الحيوي، وفيما إذا كان الذكاء قد لعب دورًا محوريًا في نشوئه أم لا".[1] ونعم، فعلاقة الكائنات الحية ببعضها، ودرجات القرابة بينها، بعيدة نوعا ما عن إجابة سؤال السبب المفسر لوجودها. لكن من الناحية العملية، ما هي الأدلة العلمية التي تجعلنا نقبل الفكرة؟ في الحقيقة، لا توجد أدلة، والأسوء من ذلك أن هناك عوائق كثيرة تقف أمام قبول فكرة الانحدار المشترك. سجل الحفريات مليء بالانقطاعات ولا يستطيع أن يمدنا بالأشكال الانتقالية، وعلم تطور السلالات الجزيئي مليء بالمشاكل المنهجية والتدخلات الذاتية ثم أقصى ما يمكن أن يقدمه لنا هو اقتراح أسلاف افتراضية، وجينات الكائنات الحية مليئة بالجينات اليتيمة (التي لا تشبه أي من جينات الأسلاف المفترضة)، والشفرات الجينية للكائنات الحية لا يمكن إرجاعاها إلى مصدر واحد.[2] ومايكل بيهي يدرك هذه الأمور تماما، ويعترف أنه لا يجد حلا لتلك المشاكل، لكن هو يرى أن افتراض وجود المصمم الذكي ينهي العوائق التي تقف أمام قبول الفرضية، لأن الاختلافات بين الأبناء المفترضين والأسلاف المفترضين، من السهل تفسير وجودها إن قبلنا بوجود المصمم الذكي، يقول بيهي: "أنا لا أملك حلولًا للمشاكل الصعبة التي يطرحها العلماء المتشككين في فرضية السلف المشترك العام؛ الجينات اليتيمة ORFan genes، الشفرات الوراثية اللامعيارية nonstandard genetic codes، الطرق المختلفة للتخلق الجنيني بين الكائنات المتماثلة... إلخ. وعلى الرغم من ذلك –وفقًا لرؤيتي– لو أننا تحدثنا عن سلف مصمم بذكاء بدلا من سلف التطور الدارويني، فإن تلك المشكلات –على الرغم من أنها ستظل موجودة– سوف تصبح أقل تعجيزًا. أنا بالطبع أوافق على أن العمليات العشوائية غير الموجهة لا يمكنها أن تفسر الأمر، ولكن الفاعل الذكي ربما يكون له طرقه لتخطي الصعوبات الواضحة. إذن، في الحكم على احتمالية الانحدار المشترك، أنا أتغاضى عن المشاكل التي يمكن تسميتها بـ"كيف أتى ذلك إلى هنا؟"، وأعطي وزنا أكبر لحجج "الأخطاء" الجينية و"الخصائص اللاوظيفية". فإذا وجدت خاصية غريبة مشتركة بين نوعين، وكنا قادرين أن نقول –في حدود علمنا– أنه لا توجد لها وظيفة... فمن ثم أنا أرى ذلك دليلا قويا على الانحدار المشترك".[3] إذن، الدليل الذي يرتكز عليه بيهي للقول بصحة الانحدار المشترك هو الجينات الكاذبة Pseudogenes التي لا نعرف لها وظيفة على حد علمنا الحالي، فهل يصح هذا الاحتجاج؟
في الحقيقة لا، والدليل من كلام بيهي نفسه، ففي خطاب إلى مجلة نيتشر، كتب بيهي: "إذا كانت بعض الجينات الكاذبة على الأقل لديها وظائف غير مشكوك بها، أليس من الممكن أن تكون الخصائص البيولوجية الأخرى التي نراها غريبة لها وظائف لم نكتشفها بعد؟ ... خطر الحجج السلبية هي أنها ربما ترتكز على عدم المعرفة بدلا من النتائج الإيجابية".[4]
وليست المشكلة منطقية فقط، بل استدلالية أيضا، فهناك تصاعد للأدلة التي تثبت وجود وظائف للجينات الكاذبة، مما دفع مجموعة من الباحثين، في ورقة نشرت عام 2012، لإطلاق هذا التصريح القوي: "نحن نؤمن أن سيتم اكتشاف العديد والعديد من الجينات الكاذبة الوظيفية كلما تم تطوير التقنيات البيولوجية في المستقبل... من المؤكد أن ما يسمى بالجينات الكاذبة pseudogenes هي بالفعل وظيفية، وأنه لا يجب الاستمرار في اعتبارها خردة أو حفريات دنا".[5] وحينما تواصلنا مع بيهي خلال إعداد هذا الكتاب (28 أكتوبر 2018)، وسألناه إن كان موقفه تغير في قضية الجينات الكاذبة بعد خروج مثل هذه الأوراق، فأجاب "أنه بالرغم من أن هناك عدد من الجينات الكاذبة تم اكتشاف أن لها وظائف، لكن العديد منها لم يكتشف وظائف له بعد. لذلك أنا سأنتظر وأنظر. إن ثبت أن أكثرها له وظيفة، فهي بالتالي لن تبقى دليلا جيدا على الانحدار المشترك". وبالرغم من ضعف الاحتجاج المنطقي الأساسي من وجهة نظرنا، وبالرغم من اقتناعه بالفكرة، لكنه منفتح تماما لتغيير رأيه في ضوء الأدلة الحديثة. فهو حتى في المسألة التي نراه فيها مخطئ، أفضل وأرقى من الدوجمائيين التطوريين، الذين يرون أن السلف المشترك حقيقة لأنه حقيقة.
نقطة أخرى قبل الختام، وهي توضيح للتبعات الدينية لموقف بيهي وموقف أنصار التصميم الذكي من الانحدار المشترك، وكذلك لموقفنا كمركز من القضية. فبالرغم من أنه كما أوضحنا، لا يوجد ما يثبته، ولكن في نفس الوقت لا يوجد تعارض بين الإسلام وبين افتراض الانحدار المشترك المصمم بذكاء. لأنه حتى في حالة الإنسان، إن انحدر البشر والقرود من سلف مشترك، فليس هذا معناه أن الإنسان ظهر بالتدرج من أرحام حيوانات شبيهة بالقرود، فهذا بالطبع مرفوض تماما سواء في حالة الإنسان أو في حالة أي كائن يحتوي على أنظمة معقدة تعقيد غير قابل للاختزال (على حد تعبير بيهي من الآلات الجزيئية إلى العقل البشري)، فأينما وجد التعقيد غير القابل للاختزال، سقط مفهوم التدرج في الظهور. وفقا لذلك، وبلغة علمية، الإنسان لم يولد من رحم حيوان حتى في ظل هذا الافتراض. وبلغة دينية، الإنسان خلق جديد، مخلوق من طين، له روح، لم يولد من رحم حيوان. ولا يوجد في افتراض بيهي ما يعارض أي من ذلك، بل هو يذهب إلى ما هو أقوى من ذلك: "إن كانت مثل هذه الآراء التخمينية تتعارض بشكل مباشر أو غير مباشر مع المعتقد الموحى به من الله، فالمطالبة إذن بالاعتراف بها لا يمكن قبولها بأي حال من الأحوال".[6] وبالطبع نحن نوافقه في هذا.
هذا في باب عدم التعارض، أما في باب الاعتقاد، فنحن لا نؤمن بالتصميم الذكي إيماننا بالخلق الغيبي، فنحن ننظر له كنظرية علمية متوافقة مع الأدلة وغير معارضة للعقيدة الإسلامية، لكن شأنها شأن أي نظرية علمية، غير ثابتة، وغير يقينية، وقابلة للدحض. أما من ناحية الإيمان، فنحن نؤمن أن الله هو خالق كل شيء، سواء كانت المخلوقات تبدو لنا كنتاج للتصميم الذكي أو للقوانين الحتمية أو للصدفة (بالنسبة لنا صدفة، وبالنسبة لمن وسع علمه كل شيء ليست صدفة بالطبع)، نؤمن أن الخلق يحدث على مستوى الفرد والنوع والجنس والعائلة وكل الشعب التصنيفية، تختلف الآليات، لكن يبقى الخلق هو الاعتقاد الديني في سبب الوجود. ولا نرى أن العقيدة الدينية تخضع للتأكيد أو النفي العلمي التجريبي، فآليات النقاش حول العقائد الدينية مختلفة تماما عن ذلك. وكذلك لا نرى أن المفهوم الديني للخلق والخالق مفتقر للتدليل العلمي التجريبي، فدلالة الخلق على الخالق دلالة مباشرة يدركها أي عاقل. وكذلك نرى أن إنكار دلالة الخلق على الخالق لا يوجد لها ما يبررها في العلم، فهذا مفهوم عقلي فلسفي يحتاج إلى نوع من الاحتجاج مخالف تماما لما يوجد في العلم، ومع ذلك نتنزل بالدخول مع المخالف في مناظرة علمية حول دلالة العلم المزعومة على نفي الخالق دفعا لانتشار الشبهة. ولعل القارئ يعذر عدم الاطراد في تفاصيل هذه المسائل في تلك السطور، ولكن نعد أن نفرد كتابا لمناقشة التبعات الدينية لنظريتي التطور والتصميم بإذن الله.
وإن كان من كلمة أخيرة قبل النهاية، فهي الشكر لكل أفراد فريق العمل الذي ساهم في خروج هذا الكتاب، والتنويه أن هوامش الكتاب الأصلية موجودة في نهايته، والهوامش الموجودة في الكتاب نفسه هي لفريق عمل المركز. ثم النصيحة لمن سيقرأ الكتاب، القليل من التأني قبل الحكم لن يضرك في شيء.
[1] William Dembski and Michael Ruse, Debating Design, Cambridge University Press, 2004, p323.
[2] في الفصل الثاني من كتاب جوناثان ويلز (العلم الزومبي) تفصيل أوسع، فالمقام هنا لا يتسع لذكر التفاصيل.
[3] Interview with Michael Behe on The Edge of Evolution, Discovery Institute, June 18, 2007, http://www.discovery.org/a/4097, Last accessed: 24/1/2019.
[4] Michael Behe, A Functional Pseudogene?: An Open Letter to Nature, May 13, 2003 http://www.arn.org/docs2/news/behepseudogene052003.htm, Last accessed: 24/1/2019.
[5] Wen YZ, Zheng LL, Qu LH, Ayala FJ, Lun ZR. Pseudogenes are not pseudo any more. RNA Biol. 2012 Jan;9(1):27-32. doi: 10.4161/rna.9.1.18277. Epub 2012 Jan 1. PubMed PMID: 22258143.
[6] Michael J. Behe, A Catholic Scientist Looks at Darwinism, in William A. Dembski (Editor), Uncommon Dissent: Intellectuals Who Find Darwinism Unconvincing, ISI Books (July 9, 2004), p.149.