عناصر الداروينية
تطورت الحياة على الأرض عبر مليارات السنين عن طريق الصدفة المطلقة، وتم تصفيتها عن طريق الانتقاء الطبيعي. هكذا تقول الداروينية، أكثر الأفكار نفوذا في وقتنا الحالي. إذا ساعدت طفرة عشوائية نادرة في الدنا[1] –في الماضي البعيد– الكائن الـمُطفَّر المحظوظ على ترك ذرية أكبر من باقي أفراد نوعه، فبينما تمر الأجيال سيكون النوع ككل قد تغير. التكرار المتواصل لهذه العمليات البسيطة عبر العصور بنت عجائب البيولوجيا من الألف إلى الياء، من الآلات الجزيئية المعقدة للخلية ووصولا إلى العقل البشري.
هذا هو الادعاء على الأقل. لكن هل هو صحيح؟ لكي نجيب على هذا السؤال، يجب أن تمحص نظرية داروين بعناية، لأنها ليست عبارة عن مفهوم واحد؛ في الواقع هي خليط من أفكار غير مرتبطة ببعضها، بل ومنفصلة تماما. الأفكار الثلاثة الهامة التي يجب وضعها في الاعتبار منذ البداية هي؛ الطفرات العشوائية، الانتقاء الطبيعي، والانحدار المشترك.
الانحدار المشترك هو ما يفكر فيه معظم الناس حينما يسمعون كلمة "التطور". وهو القول بأن الأنواع المختلفة من المخلوقات الحالية يمكن تتبع نسبها إلى سلف مشترك. على سبيل المثال، العضلان والزرافات –نوعين من الثدييات– يتم النظر إلى كليهما على أنهما منحدرين من نوع واحد من المخلوقات من الماضي السحيق. ومثلهم الكائنات التي تنتمي إلى فصائل مبتعدة عن بعضها تماما؛ كالبقر والصقور، أو الخنازير والبيتونيا، أو القطاس والخميرة.
هذا أمر مذهل بالتأكيد، وبالتالي، من المفهوم أن ينظر معظم الناس لفكرة الانحدار المشترك باندهاش بالغ، للدرجة التي تجعلهم لا يتقصون أكثر في الأمر. ولكن على نحو عميق جدا، تفسير الانحدار المشترك هو تافه أيضًا. فالانحدار المشترك يحاول تفسير التشابهات بين المخلوقات فقط. فهو يقول فقط أن سمات مشتركة محددة كانت هنا منذ البداية؛ أي أنها كانت لدى الأجداد. ولكنه وحده، لا يحاول تفسير كيف أتت السمات أو الأجداد نفسهم إلى هنا في المقام الأول، أو لماذا اختلف الأحفاد بعد ذلك. فعلى سبيل المثال، الأرانب والدببة لديهم شعر، وبالتالي فكرة الانحدار المشترك تقول فقط أن سلفهم كان لديه شعر أيضًا. النباتات والحيوانات لديهم خلايا معقدة بها نواة، وبالتالي يجب أن يكونوا قد ورثوا تلك الخاصية من سلف مشترك. ولكن سؤال كيف أو لماذا يبقى معلقًا.
لكن في المقابل، آلية داروين المقترحة للتطور –المفهوم الـمُركب من الطفرات العشوائية المقترنة بالانتقاء الطبيعي– تطمح بالتأكيد لأكثر من ذلك. فالربط بين مفهومي الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي هدفه هو محاولة تفسير الاختلافات بين المخلوقات. تحاول تلك الآلية إجابة السؤال المحوري، ما الذي يمكن أن يكون السبب وراء تلك التحولات المذهلة؟ كيف يمكن لنوع واحد من الحيوانات السلفية ترتقي عبر الزمن إلى مخلوقات مختلفة كـ... لنقل مثلا الحيتان والخفافيش؟
دعنا نفكك المفهوم الـمُركب. أولا؛ دعنا نتناول الانتقاء الطبيعي. الانتقاء الطبيعي
–مثل الانحدار المشترك– هو مفهوم شيق، ولكنه في الواقع محدود للغاية. فكرة الانتقاء الطبيعي بمفردها، تقول فقط أن الكائنات الأكثر صلاحية في أحد الأنواع سوف تنتج ذرية أكثر قدرة على البقاء من الكائنات الأقل صلاحية. إذن، إذا بقي العدد الإجمالي للنوع على حاله، ستحل سلالة الكائنات الأكثر صلاحية محل سلالة الكائنات الأقل صلاحية. وليس من المفاجئ أن المخلوقات التي هي بطريقة ما أكثر صلاحية (أقوى، أو أسرع، أو أكثر صلابة) سيكون أدائها في الطبيعة أفضل في العموم من تلك التي هي أقل صلاحية (أضعف، أو أبطأ، أو أهش).
دور الطفرات العشوائية هو أكثر الجوانب انتقادا في نظرية داروين المتعددة الأوجه على الإطلاق. تقريبا كل الجديد والمهم في الفكر الدارويني متمركز في المفهوم الثالث. في التفكير الدارويني، الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يصبح بها النبات أو الحيوان أكثر صلاحية من أقاربه هي عن طريق الحفاظ على الطفرات الصدفوية. إذا جعلت الطفرة الكائن أقوى أو أسرع أو بطريقة ما أكثر صلابة، يتولى الانتقاء الطبيعي الأمر من هنا ويساعد في التأكد من أن نسله يزداد بكثرة. لكن حتى تظهر الطفرة العشوائية، الانتقاء الطبيعي يمكنه فقط أن يسترخي وينتظر.
الطفرات العشوائية، الانتقاء الطبيعي، والانحدار المشترك؛ ثلاثة أفكار منفصلة تم دمجهم في نظرية واحدة. بسبب التحام المفاهيم، سؤال هل الداروينية حقيقة؟ له عدة أجوبة محتملة. أحد الاحتمالات بالطبع، أن تلك الأفكار المنفصلة –الانحدار المشترك والانتقاء الطبيعي والطفرات العشوائية– يمكن أن تكون كلها صحيحة بالكامل، وكافية لتفسير التطور. أو، يمكن أن تكون كلها صحيحة، بمعنى أن الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي يحدثان، لكن من الممكن أن تكون غير هامة، غير قادرة على تفسير الجزء الأكبر من التطور. ومن المحتمل أيضا أن يكون أحدهم صحيحا تماما بينما الاثنين خاطئين تماما. أو أحد الأفكار يمكن أن تكون صحيحة بدرجة كبيرة بينما الأخرى صحيحة بدرجة أقل. بسبب أنهم أفكار منفصلة، أدلة كل جانب من نظرية داروين يجب أن يتم تقييمها بشكل مستقل. الأجيال السابقة من العلماء كانوا يفصلون بينهم بسهولة. العديد من علماء البيولوجيا البارزين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين رأوا أن الانحدار المشترك فكرة صائبة، بينما الانتقاء الطبيعي بالطفرات العشوائية فكرة خاطئة.
ولكن في المائة عام الأخيرة تقدم العلم بشكل هائل، فما النتائج التي يظهرها العلم الحديث؟ اختصارًا، أدلة الانحدار المشترك تبدو مقنعة. نتائج التجارب الحديثة على تسلسلات الدنا –والتي لم يحلم بها علماء القرن التاسع عشر مثل تشارلز داروين– تظهر أن بعض الكائنات بعيدة الصلة تتشارك خصائص اعتباطية ظاهرة لجيناتها[2] والتي يبدو أنه لا يوجد تفسير لها إلا أنها ورثتها من سلف مشترك بعيد[3]. ثانيا، هناك أيضا أدلة وافرة على أن الطفرات العشوائية المقترنة بالانتقاء الطبيعي يمكنها تعديل الحياة من نواح هامة. ثالثا، على الرغم من ذلك، هناك أدلة قوية أن الطفرات العشوائية محدودة للغاية. والآن بما أننا نعلم تسلسلات العديد من الجينومات[4]، ونعلم كيف تحدث الطفرات ومعدل حدوثها، يمكننا اكتشاف احتمالات حدود الطفرات العشوائية بدرجة ما من الدقة؛ للمرة الأولى منذ اقترح داروين نظريته.
كما سنرى طوال هذا الكتاب، الحوادث الجينية تتسبب في جزء من التغير التطوري، لكنه فقط جزء. كما اتفق أجيال العلماء السابقين، بخلاف الغلاف الخارجي للحياة، أدلة وجود دور محوري للطفرات العشوائية سيئة للغاية. بسبب أسراب من الأدلة قليلة الصلة بالعلم، هذا الجانب الحاسم من نظرية داروين –قدرة الانتقاء الطبيعي المرتبطة بالطفرات العشوائية– تم إقناع العامة به على نطاق واسع مؤخرا.
في السنوات الأخيرة، دفع المفكرين التابعين لداروين أفكارهم بقوة إلى ساحات النقاش العامة كنوع من النظريات المفسرة لكل شيء في مجال البيولوجيا؛ فادعوا أن تطبيق المبادئ الداروينية على الطب ستقول لنا لماذا نمرض، وعلم النفس الدارويني يفسر لماذا بعض الرجال يغتصبون وبعض النساء يقتلون أطفالهم حديثي الولادة. جاذبية رؤية العالم من خلال العدسات الداروينية انصبت على العلوم الإنسانية والقانون والسياسة. بسبب الضباب البلاغي المحيط بالنقاشات الدائرة حول التطور، من الصعب على العامة أن تقرر ما هو الراسخ وما هو المخادع. ولكن إذا كانت ادعاءات الداروينية الأضخم مجرد صخب، فالمجتمع إذن تم تضليله للغاية حول موضوعات –تتراوح من مسببات المرض إلى استحقاق المجرمين للوم– يمكن أن يكون لها تبعات قوية على أرض الواقع.
كنظرية لكل شيء، الداروينية عادة ما يتم عرضها كمسألة إما تؤخذ كلها أو تترك كلها. إما أن تقبل النظرية كلها أو تقرر أن التطور ما هو إلا دعاية صاخبة وتتخلص منها برمتها. وكلا الأمرين خاطئ. حينما نتعامل مع طبيعة خطرة في الغالب، لا يمكننا تحمل رفاهية رفع عقائد أي شخص إلى مكانة أعلى من مكانة الأدلة. هدف هذا الكتاب هو قشع هذا الضباب، لتقديم تقييم رصين لما يمكن –وما لا يمكن– أن تفعله العمليات الداروينية، لإيجاد ما أسميه حافة التطور.
أهمية إيجاد المسار
على السطح، نظرية داروين عن التطور بسيطة بشكل مغري، وعلى عكس العديد من النظريات في الفيزياء والكيمياء، فهي يمكن تلخيصها بإيجاز وبدون صيغ رياضية: في كل نوع، هناك تغييرات. على سبيل المثال، يمكن أن يكون أحد الحيوانات أكبر من إخوانه وأخواته، وآخر يمكن أن يكون أسرع، وآخر ممكن أن يكون لونه ألمع. لكن للأسف، ليس كل الحيوانات التي تولد ستبقى لكي تتكاثر، لأنه لا يوجد ما يكفي من الطعام للجميع، وهناك أيضا مفترسين للعديد من الأنواع. إذن الكائن الذي تغيره بالصدفة أعطاه ميزة في الصراع من أجل البقاء سيميل إلى الحياة والازدهار وترك الذرية. إذا ورث الأبناء من أباءهم وأمهاتهم التغيير النافع، فهم أيضا سوف تكون لهم فرصة أفضل في ترك المزيد من الذرية. وعبر الوقت، أحفاد هذا الكائن بهذه الطفرة الأصلية المحظوظة سيكونون هم الأكثرية في المجموعة، ومن ثم النوع ككل سيتغير مما كان عليه. وإذا تكرر هذا السيناريو مرارًا وتكرارًا، فالأنواع سوف تتغير تماما إلى شيء مختلف بالكلية.
للوهلة الأولى، هذا يبدوا أنه سهل وسلس. التغيير، الانتقاء، الوراثة (بكلمات أخرى؛ الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي والانحدار المشترك) تبدوا كما لو أنها كل ما يحتاجه الأمر. في الحقيقة، حينما يتم صياغة القصة التطورية بإيجاز كما في الفقرة السابقة، يظهر التطور الدارويني في الغالب كما لو كان ضرورة منطقية. كما صرح المعلقون الداروينيون مرارا، هي يجب أن تكون حقيقة. إذا كان هناك تغييرات في مجموعة من الكائنات، وإذا زادت التغييرات من فرص البقاء، وإذا تم توريث الصفة، فمن المؤكد تقريبا أن الجيل اللاحق سيكون فيه أفراد أكثر بالصفة المحسنة. والجيل التالي له سيكون لديه أكثر، والذي يليه أكثر، حتى يحصل كل أفراد النوع عليها. أينما تتحقق تلك الظروف، حيثما كان هناك تغييرات وانتقاء ووراثة، فمن ثم لا بد أن يكون هناك تطور.
حتى الآن لا توجد مشكلة. لكن هذا المنطق الاختزالي الساذج يتجاهل جزءًا كبيرًا من الأحجية. على أرض الواقع، الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي والانحدار المشترك من الممكن أن تكون جميعها صحيحة تماما، ولكن قد تظل العملية الداروينية تفسيرا غير كاف للحياة. لكي تتشكل البنى المعقدة العديدة للحياة، العملية الداروينية يجب أن تقوم بخطوات عديدة متناسقة، سلسلة من الطفرات النافعة التي تساعد كل منها الأخرى بنجاح في البناء، موصلة إلى النتيجة المعقدة. من أجل القيام بذلك على أرض الواقع، بدلا من الاكتفاء بالخيالات، لا بد أن يكون هناك طريقا بيولوجيا لإنتاج البنية له فرصة معقولة للنجاح في الطبيعة. بكلمات أخرى، التغيير والانتقاء والوراثة سوف تعمل فقط إذا كان هناك مسارا تطوريا يسيرا يوصل بين النقطة البيولوجية (أ) والنقطة البيولوجية (ب).
سؤال المسار محوري في التطور كما هو في حياتنا اليومية. في الحياة اليومية، إذا مشيت معصوب العينين من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، ومن ثم سيختلف الأمر كثيرا بناء على أين هي النقطة (أ) وأين هي النقطة (ب) وما الذي يقع بينهما. لنفترض أنه كان عليك أن تمشي معصوب العينين (ولكي نجعل المثال أقرب لروح الداروينية، معصوبًا وسكرانًا) من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) لكي تحصل على جائزة ما؛ لنقل مثلا كأسا ذهبيا. والأكثر من ذلك، لنفترض أنك في إرهاقك وعماك، الفكرة الوحيدة التي علقت في رأيك هي أن تقفز عاليا كلما سنحت لك الفرصة (هذا يحاكي الانتقاء الطبيعي الذي يقود النوع دوما إلى درجات أعلى من الصلاحية). من ناحية، إذا كان عليك أن تمشي من أسفل السلم إلى أعلاه لكي تفوز بالكأس الذهبي، فلعل المشكلة تكون صغيرة. ومن ناحية أخرى، إذا كان عليك أن تمشي معصوب العينين من أحد الجوانب في مدينة لا تعرفها إلى قمة ناطحة سحاب على الجانب الآخر –عبر الشوارع المزدحمة، متجاوزا المخاطر عابرًا المداخل– ستقابلك مشاكل لا حصر لها. فعلى الأرجح أنك ستترنح بدون قدرة على التماسك، ستقفز إلى أعلى قمة سلم المدخل، تعتلي أسطح السيارات، وهلم جرا. ستتعثر في أي واحدة من آلاف النقط المحلية، غير قادر على المواصلة، ورافض للتراجع. وإذا حاولت فقط القفز للأعلى كلما كان ذلك ممكنا، فسيكون عليك أن تنطلق معصوب العينين تائها من سهول مدينة لوبوك في تكساس–متخبطا بعشوائية في السهول، خلال الغابات، وحول الأخاديد، وعبر الأنهار– إلى قمة أبراج سيرس في شيكاجو، لن يكون من المعقول أن يتوقع نجاحك أنت أو أي أحد من مليارات الأشخاص معصوبي الأعين التائهين الذين ربما يحاولوا فعل شيء كهذا.
في الحياة اليومية، كلما كانت المسافة أكبر بين النقطتين (أ) و(ب)، وكلما كانت الأرض أكثر وعورة، كلما كانت فرص نجاح المشي معصوبا أقل، حتى –أو ربما تحديدا– حينما تتبع قاعدة غبية مثل "اقفز دائما للأعلى، ولا تتراجع أبدا". الشيء نفسه ينطبق على التطور. في أيام داروين كان العلماء يجهلون العديد من تفاصيل الحياة، وبالتالي كان من المعقول أن يطمحوا لإيجاد مسارات تطورية سوف يثبت أنها قصيرة وسهلة. ولكن الآن بما أننا نعرف أكثر، التقدم الضخم في العلوم الحديثة أظهر أن الحياة معقدة وأنيقة بشكل هائل، بالأخص على مستوى البنية الجزيئية. هذا يعني أن المسارات الداروينية للعديد من خصائص الحياة المعقدة طويلة جدا ووعرة. المشكلة أمام الداروينية إذن –كما في نزهة طويلة في الخارج بأعين معصوبة– أن الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي في أرض تطورية وعرة ربما تبقي النوع يسير في طرق جينية مسدودة، عالقا في قمة تلال تشريحية صغيرة، أو شاردا بدون هدف في سهول فسيولوجية (عضوية)، ولن يقترب إطلاقا من الفوز بالكأس الذهبية البيولوجية في القمة البيولوجية البعيدة. إذا كانت هذه هي الحالة، إذن آلية الطفرات العشوائية المقترنة بالانتقاء الطبيعي لن تكون فعالة أساسا. في الحقيقة، الحاجة الملحة للقفز نحو أي تل تطوري سوف تمنع باستمرار كل السكارى من إيجاد القمة البعيدة للجبل البيولوجي.
تلك النقطة حاسمة: إذا لم يكن هناك مسارا تطوريا يسيرا ويتصاعد تدريجيا ويسهل إيجاده يقود إلى نظام بيولوجي في نطاق زمني معقول، لن تعمل الآلية الداروينية. في هذا الكتاب سوف نفحص مدى صعوبة تلك المتطلبات.
نظرة خاطفة للوراء
كخطوة عملية، ما المسافة التي يجب أن تكون بين النقطتين البيولوجيتين (أ) و(ب)، وما مدى وعورة المسار بينهما، قبل أن تصبح الآلية الداروينية غير فعالة؟ كيف يمكننا أن نحدد متى يمكننا أن نصل إلى تلك النقطة؟ أين يوجد في البيولوجيا المكان المعقول لرسم الخط الذي يحدد حافة التطور؟
هذا الكتاب يجيب على تلك الأسئلة، والتي ظهرت بسبب البحث الذي بدأته منذ أكثر من 10 سنوات في صندوق داروين الأسود. قدمت وقتها حجتي أن البنى المعقدة تعقيدا غير قابل للاختزال –مثل بعض الماكينات الخلوية المعقدة بشكل هائل– لا يمكن أن تكون تطورت عن طريق الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي. لكي نكمل المثال السابق، كانت الحجة هي أن السكران معصوب العينين لن يستطيع أن ينتقل من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، لأنه لن يكون قادرًا على أن يتخذ خطوة بسيطة في كل مرة؛ سيكون عليه أن يقفز فوق الأودية والأنهار. خَلُص الكتاب إلى أنه يوجد على الأقل بعد القواعد في أساس الحياة أبعد من مرمى الطفرات العشوائية.
تلك النتيجة ألهبت العديد من النقاشات. وعلى وجه التحديد، العديد من النيران اشتعلت في المجتمع العلمي بسبب استنتاجي أن تلك القواعد مصممة بذكاء. العديد من الأشخاص عارضوا تلك النتيجة بقوة لأسباب متنوعة. في هذا الكتاب، بالرغم من أن نتائجي في النهاية هي نفسها، وأنها بلا شك ستجد معارضة من البعض، لكني قضيت معظم فصول الكتاب في رسم خيوط الحجة المبنية على الأدلة الجزيئية، والبحوث الجينية، وعلى–وهي الأهم– الدراسات الحاسمة في مجال التغيرات التطورية طويلة المدى في الكائنات وحيدة الخلية لاختبار الداروينية دون اعتبار لاستنتاجات التصميم. القراء الذين لا يستطيعون قبول نتائجي النهائية لا بد أن يظلوا قادرين على أخذ الدليل المقدم في معظم هذه الفصول في الاعتبار، قبل اتخاذ موقف من استنتاجاتي في الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب. كما سأوضح لاحقا، الاحتمالات الرياضياتية والبنى الكيمائية الحيوية لا يمكنها دعم العشوائية الداروينية، إلا في الهوامش المتاحة للتطور. مع ذلك، بينما نسعى لإيجاد الخط الفاصل لحافة العشوائية، لا حاجة للإشارة إلى التصميم.
فتح الطريق المسدود
في صندوق داروين الأسود كنت مهتما فقط بإيضاح أن بعض البنى الأنيقة في الحياة أبعد من مرمى الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي. هذا الكتاب يطمح إلى أكثر من ذلك. التركيز هنا على رسم قواعد إرشادية عامة معقولة لتحديد حافة التطور؛ أي لكي نقرر بشيء من الدقة أين تقع النقطة التي من غير المرجح عندها أن نقبل بالتفسيرات الداروينية، ليس فقط بالنسبة لبعض البنى المحددة، ولكن للخصائص العامة للحياة. يمكن مقارنة ذلك بعمل عالم الآثار الذي يكتشف مدينة قديمة مدفونة تحت الرمال. مهمة التوصل إلى ما إذا كانت العمليات العشوائية أنتجت الرسومات المعقدة على جدران مباني المدينة (ربما من خلال نفخ الرمال) سهلة إلى حد ما. فعلى أي حال، من غير المرجح إطلاقا أن تكون الرسومات الأنيقة نتاجا للصدفة، خاصة إذا كانت الرسومات تمثل، ليس فقط أنماط هندسية بسيطة، ولكن أيضا صورًا لبشر وحيوانات.
ولكنما ريثما ينتهي قطف الثمار، يصعب السير أكثر فأكثر. هل العلامات القاتمة على الجانب جزء فعلا من الرسمة، أم مجرد لطخات؟ هل تلك الكومة من الحجارة القابعة بجانب الحائط الخارجي منضدة، أم هيكل ديني لقبول الأضاحي؟ هل الأرض التي بجانب الحائط بقايا لحرث الحقل؟ أين تقع حدود المدينة؟ أين تنتهي أثار الحضارة وأين تبدأ الطبيعة الخام؟ التوصل إلى قرار في هذه القضايا الهامشية مهمة أصعب بكثير، والنتائج ستكون حتما مبدئية وغير مؤكدة. ولكن في نهاية الدراسة سيصل عالم الآثار إلى صورة أكثر وضوحا عن أين تنتهي حدود المدينة وأين تتولى العمليات الطبيعية العشوائية المشهد.
بطريقة ما، يحل علماء الآثار الأمر بسهولة. وبالرغم من أن عليهم أن يقلقوا حيال تأثير العمليات الفيزيائية على القطع الفنية التي يدرسونها، لكنهم عادة لا يشغلون أنفسهم كثيرا بالتأثيرات البيولوجية. ولكن في بحثنا عن أين تقع أقصى حدود الداروينية، العمليات البيولوجية الفريدة تأتي بقوة طبعا إلى المشهد. الطفرات العشوائية في الدنا يمكن تشبيهها بالحوادث العشوائية التي تصيب الجمادات. لكن النباتات والحيوانات تتكاثر، أما الأحجار فلا. الانتقاء الطبيعي يعمل على المواد الحية، وليس المواد غير الحية. نظرية داروين تدعي أن الحوادث الجينية العشوائية والانتقاء الطبيعي الذي يعمل على مدار العصور سوف يوصل إلى نتائج لا تبدو شبيهة إطلاقا بآثار الصدفة.
الحياة وجدت على الأرض منذ مليارات السنين. وخلال هذا الوقت عاشت وماتت أعدادا ضخمة من الكائنات. يفترض الداروينيون أن الصراعات الشرسة بين السلالات المختلفة عبر العصور قادت إلى "سباقات تسلح" بيولوجية؛ التحسينات التنافسية لقدرة شن الحرب البيولوجية مماثل لسباق التسلح المتقدم في القرن العشرين بين البشر في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. ربنا نتائج سباقات التسلح البيولوجية تلك كانت آلات حية متقدمة، أبعد بكثير مما يمكن أن نفكر فيه عادة كنتاج للصدفة.
تلك هي النظرية. لكن كما ثبت حتى الآن، من الصعب للغاية اختبارها بشكل ملائم. الدراسات المعملية الحديثة عن الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي عانت من عدم القدرة على فحص الأعداد الكبيرة من المخلوقات. في العادة، حتى مع الجهود البطولية من قبل أفضل المحققين، عدد قليل نسبيا من الكائنات هو الذي يمكن دراسته فقط، ولمدة قصيرة نسبيا أيضا، وبعد ذلك يتم متابعة التغييرات في صفات قليلة مختارة. في نهاية مثل هذه الدراسات، بينما تتوفر بعض النتائج الشيقة، من المستحيل عادة أن يتم التعميم بناء عليها. بالرغم من أن العلماء يحبون إجراء دراسات أكبر وأكثر شمولية، لكن نطاق المشاكل كبير للغاية، والموارد المتاحة لأي معمل لا تكفي للقيام بذلك.
وبالتالي، في غياب الاختبارات المعملية الحاسمة، يعمل معظم البيولوجيين تلقائيا داخل الإطار الدارويني، ويفترضون ببساطة صحة ما لا يمكن إثباته. للأسف، يقودنا ذلك إلى عادة–يمكن فهمها، ولكنها مع ذلك هدَّامة– نسيان الفرق بين ما تم افتراضه وما تم إثباته. الاختلافات بين الأنواع المتباينة للغاية يتم إلصاقها تلقائيا بقدرة الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي، حتى من قبل أكثر العلماء تميزًا، وحتى أكثر الصفات البيولوجية أناقة ينسب الفضل فيها تلقائيا إلى نظرية داروين.
الخروج من المأزق النظري سوف يتطلب بيانات تطورية دقيقة على المستوى الجيني من عدد ضخم من الكائنات التي تقع تحت ضغط متواصل من الانتقاء الطبيعي. تلك البيانات ببساطة لم تكن متاحة في الماضي. لكنها متاحة الآن.
القفزات والحدود
حتى منذ عشر سنوات فقط، أي محاولة لتحديد حافة التطور بأي شكل من الدقة كانت مستحيلة تقريبا. القليل فقط كان معلومًا. لكن مع الزحف القوي للعلوم، خاصة في العقد الأخير، أصبحت المهمة مستطاعة.
الصعوبة الكبرى في تقييم نظرية تطورية كالداروينية يمكن تلخيصها كالتالي؛ بينما نستطيع أن نرصد التغيرات الكبيرة في النباتات والحيوانات بسهولة، لكن أسباب تلك التغيرات تظل مبهمة. داروين والعلماء المبكرين كان يمكنهم مثلا فحص التغيرات في مناقير العصافير، لكن لم يتمكنوا من معرفة ما الذي يسبب تلك التعديلات. ومع الاقتراب من أيامنا هذه، استطاع علماء منتصف القرن العشرين التوصل إلى أن بعض أنواع البكتيريا طورت مقاومة للمضادات الحيوية، لكنهم لم يعرفوا ما الذي أعطاهم تلك القدرة على وجه الدقة. فقط في نصف القرن الأخير أظهر العلم أن تلك التغيرات الظاهرة تحدث بسبب الطفرات في الجزيئات الخفية، البروتينات والدنا. الطريقة الوحيدة للحصول على فهم واقعي لما يمكن أن تقوم به فعلا الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي، هي أن نتتبَّع التغييرات على المستوى الجزيئي. التقييم الصحيح لنظرية داروين يتطلب بالتأكيد تقييم للطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي على المستوى الجزيئي، الاهتمام بذلك أمر محوري. ولكن للأسف، التعهد بمثل ذلك أمر مرهق للغاية، حتى في هذه الأيام. وبالرغم من ذلك، لا يوجد طريق آخر أمامنا.
الخبر الجيد هو أنه مع الكثير من التبصر وبذل الجهود، طورت العلوم الحديثة الأدوات للقيام بذلك. الانتصار الذي حققه العلم في القرن العشرين هو إظهار أحد متطلبات نظرية داروين؛ الأساس الجوهري للاختلافات. فنحن نعلم الآن أن الاختلافات في الكائنات تعتمد على تغييرات خفية في الدنا (لملخص عن بنية الدنا راجع الملحق أ). والأكثر من ذلك، أن العلماء قاموا بفهرسة طرقا لا حصر لها يتغير بها الدنا. فليس فقط أن الوحدات المنفردة (تسمى بالنوكليوتيدات[5] Nucleotides) للدنا تتغير عَرَضًا عندما ينسخ في الجيل الجديد، ولكن كتلا كاملة من اللولب المزدوج ممكن أن تتضاعف أو تحذف عَرَضًا. من النادر جدا أن ينسخ الدنا كاملا مرتين في الخلية، مما يسفر عن نجل يحمل الشريط الوراثي لوالديه مضاعفا. وفي أوقات أخرى عناصر الدنا النشطة الشبيهة بالفيروسات يمكن أن تدرج نسخا من نفسها في مواضع أخرى في الجينوم، وفي بعض الأحيان تسحب أجزاءً أخرى من الدنا معها. الفرص الطبيعية للتلاعب بدنا الكائن غير محدودة عمليا.
لم يظهر لنا العمل الشاق للعديد من العلماء الأساس الجوهري للاختلاف فحسب، ولكن أيضا معدل الطفرات تم التوصل فيه إلى نتائج مرضية نوعا ما. كقاعدة، نسخ الدنا يحدث بشكل صحيح إلى أقصى حد. في المتوسط، الخطأ يحدث مرة واحدة فقط في كل مئة مليون (تقريبا) نكليوتيد ينسخ في الجيل. ولكن هناك استثناءات. في فيروسات مثل فيروس العوز المناعي البشري HIV، معدل الطفرات يتسارع بشكل ضخم.
تقدم محوري آخر في قدرتنا على اختبار الداروينية بشكل صحيح أتى من معرفتنا بتسلسلات الدنا. في العقود الأخيرة القليلة، كمية تسلسلات الدنا التي تم معرفتها زادت بصورة مطردة، وعدد الكائنات التي تم معرفة تسلسلات الدنا فيها تضخمت. في منتصف التسعينات، نشر أول تسلسل كامل لجينوم كائن (لبكتيريا صغيرة تسمى المستدمية النزلية Haemophilus influenza) نتوصل إليه. أما اليوم فتم التوصل إلى تسلسلات مئات الجينومات. ليس فقط التسلسل الكامل للجينوم، ولكن تيسر القدرة لمعرفة تسلسل الأجزاء الرئيسية على الأقل من دنا الكائن أعطى العلماء قدرة على الحد من التغييرات الجزيئية التي هي الأساس في الأمراض الجينية، أو تلك التي تسبب المقاومة للمضادات الحيوية.
لكن كل هذا التقدم العلمي يظل غير كاف للخروج باستنتاجات صارمة حول قدرات التطور الدارويني إن لم نقم بدراسة أعداد كافية من الكائنات. كلما كان عدد الكائنات أكبر، كلما زادت فرص الطفرات العشوائية في العثور على التغيير النافع وتمريره إلى الانتقاء الطبيعي، كلما زادت صرامة الاستنتاجات حول ما يمكن للداروينية فعله. الدراسات حول حيوانات مثل العصافير؛ يمكنها على الأكثر أن تتبع حياة المئات منها. أما في المعمل؛ فيمكن فحص آلاف من ذباب الفاكهة. وهذا أفضل، لكن ما زلنا بعيدين عن الحد الكافي. مع وجود آلاف أو ربما ملايين من الكائنات، ظهور الطفرة يكون نادرا، والقليل من الطفرات التي تظهر تكون نافعة.
العالم الطبيعي يعج بالكائنات الحية بالطبع. من الممكن أن يكون هناك مليارات من أنواع الثدييات على الكوكب في وقت ما، مثل البشر والفئران. في البحور يوجد أعدادًا ضخمة من الأسماك. وذلك يعبر فقط عن أشكال الحياة الكبرى. فهناك أيضا أعداد لا حصر لها من الكيانات المجهرية مثل البكتيريا والفيروسات. بينما لا تستطيع المعامل إنماء كائنات كافية للقيام بمعالجة معقولة لقدرات التطور الدارويني، لكن الطبيعة ليس لديها تلك المشاكل.
التطور من سلف مشترك، عبر التغيرات في الدنا، مدعوم جدا بالأدلة. وربما يكون عشوائيا، وربما لا. العلماء الذين يقومون بتتبع تسلسل الدنا في الإنسان وتحديد الطفرات النافعة –في مقابل أعدائنا الطبيعيين مثلا–، لا يقومون في ذلك بدراسة الدنا لشخص واحد، والفضل يعود للتطور. فهم في الواقع يقومون بمراقبة نتائج الصراع الذي استمر لأكثر من ألف سنة وانخرط فيه ملايين الملايين من البشر. استقرت الطفرة النافعة لدى أحد جّدات البشر المعاصرين أولا، وتغلب أحفادها على العديد من أحفاد البشر الآخرين. إذن الموقف الحالي يعكس تاريخًا تطوريًا تضمن العديد من البشر. حينما يقوم العلماء بترتيب تسلسل الجينوم، فهم بذلك ينشرون أدلة وافرة على التطور –الدارويني أو عكسه– غير متاحة عبر أي وسيلة بحثية أخرى.
الدليل الحاسم في الداروينية
الاختبار الوحيد الأفضل لنظرية داروين هو تاريخ الملاريا؛ والفضل يعود إلى أعدادها الضخمة، ومعدلات التكاثر لديها، ومعرفتنا بعلوم الوراثة. والجزء الأكبر من هذا الكتاب سيركز على هذا المرض. العديد من الأمراض الطفيلية تصيب البشر، ولكن تاريخيا كانت الملاريا هي المصيبة الأعظم، وهي من بين أكثر الأمراض التي تمت دراستها بدقة. لمدة عشرة آلاف عام تسبب البعوض الحامل للطفيليات في المرض والموت في مساحات شاسعة من الأرض. حتى القرن الماضي، كانت البشرية جاهلة بسبب حمى الملاريا، وبالتالي لم يكن هناك فرصة لوجود دفاع قوي. وكانت الطريقة الوحيدة لإضعاف الضغط الانتقائي العنيد المكثف للطفيلي هي قوة الطفرات العشوائية. مئات الطفرات المختلفة التي تعطي قدرًا من المقاومة للملاريا، ظهرت فجأة في جينوم الإنسان، وانتشرت في البشر عن طريق الانتقاء الطبيعي. تلك الطفرات تم الترويج لها من قبل الداروينيين كأحد أفضل وأوضح الأمثلة على قدرات التطور الدارويني.
وهم بالفعل كذلك. لكن، كما سنرى، بما أن الغطاء قد كُشِف عن التغيرات الجزيئية التي تتسبب في مقاومة الملاريا، فاتضح أنها تروي لنا قصة مختلفة تماما عما يتوقعه الداروينيون؛ قصة تؤكد على التخبط المتنافر المتضمن في البحث الأعمى. تقدم الملاريا واحد من أهم الأمثلة على التطور الدارويني، لكنها تشير إلى اتجاهين منفصلين؛ ما تستطيع الداروينية أن تفعله، وما لا تستطيع أن تفعله. وبالمثل، التغيرات في الشريط الوراثي للشر، كاستجابة للملاريا، تشير إلى الحدود القصوى لفاعليَّة الطفرات العشوائية.
بسبب أنه تم دراستها على نطاق واسع، وبسبب الأعداد الفلكية للكائنات المتضمنة في تلك الدراسة، يعتبر الصراع التطوري بين البشر وبين خصمنا القديم (الملاريا) هو الأساس الأفضل والأجدر بالثقة لتشكيل التصورات عن قدرة الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي. عدد قليل من مصادر المعلومات الأخرى هو الذي يقترب من ذلك، وكما سنرى، هذا العدد القليل أيضا يخبرنا بقصص مشابهة.
توضيح هام للقارئ: للأسف، لكي نفهم ونقدر الصعوبات التي تواجه الطفرات العشوائية بشكل كامل، وكيف توضحها معركة البشر مع الملاريا، يجب علينا أن نتحامل على أنفسنا وننغمس في تفاصيل المعركة على المستوى الجزيئي. أنا سأبذل كل جهدي لكي أقلل من التفاصيل التقنية قدر الإمكان، وبعضها ستكون محصورة في الملاحق. لكن لا توجد وسيلة للتهرب من حقيقة أن هذا الموضوع يتطلب تفاصيل تقنية. |
بالرغم من أن عدد خلايا الملاريا ضخم، لكنه أقل بكثير من عدد الكائنات التي وجدت على الأرض. مع ذلك، كما سأوضح، الاستقراء الصريح من بيانات الملاريا يسمح لنا وضع الحدود التجريبية المعقولة حول ما يمكن أن نتوقعه من الطفرات العشوائية، حتى بالنسبة لكل أشكال الحياة على الأرض في مليارات السنين الماضية. ليس ذلك فحسب، ولكن دراسات باكتيريا الإشريكية القولونية E. coli وفيروس HIV (الفيروس الذي يتسبب في الإيدز AIDS) تقدم تأكيدًا واضحًا على الدروس المستمدة من الملاريا. فيروس HIV على وجه الخصوص، يعتبر شيئا شبيها بحجر رشيد في مجال دراسة الطفرات العشوائية، لأن هذه الفيروسات تتطفر بمعدلات مهولة، أسرع عشرة آلاف مرة من معدل التطفير في الخلايا. تحتوي الفيروسات على مادة وراثية أقل بكثير، لكنها تتطفر بسرعة كبيرة، وهناك العديد من النسخ منها، لدرجة أن الـ HIV وحده –خلال الخمسين سنة الماضية فقط– خضع وحده لأكثر مما تعرضت له كل الخلايا منذ بداية العالم من بعض أنواع الطفرات على أقل تقدير.
سيركز معظم هذا الكتاب على العمليات الخلوية والجزيئية، لكن في الفصلين الآخرين سأذهب إلى ما أبعد من ذلك. في السنوات الأخيرة، بينما حقق العلم قفزة رائعة، اكتشفت بعض التفاصيل الجزيئية الأساسية في نمو الأصناف الحيوانية المختلفة، ومن ثم فقد وضعت بعض الاستنتاجات عن حدود استخدام الطفرات العشوائية في تفسير صفات الحياة الحيوانية. وفي الفصل الأخير، أظهرت أن النتائج التي وصل إليها الكتاب حول العمليات العشوائية في البيولوجيا تتماشى تماما مع النتائج الحديثة في التخصصات العلمية الأخرى كالفيزياء والكونيات. تلك النتائج مجتمعة، تسلط الضوء على دور الصدفة في الطبيعة ككل.
ومضات عن الحافة
أحد صعوبات كتابة كتاب للتحقق من كفاءة نظرية داروين هي أن بعض الناس تستنتج خَطَأً أنك ترفضها جملة وتفصيلا. حان الوقت للتوضيح، لتجاوز مثل تلك الانطباعات المسبقة. الطفرات العشوائية تفسير كاف تماما لبعض خصائص الحياة، لكن ليس لها كلها. وهذا الكتاب يبحث عن الخط الفاصل بين العشوائي وغير العشوائي الذي يحدد حافة التطور. تفكر في هذه الأمثلة:
- من ناحية، هناك الملاريا؛ الوباء القديم للبشر. تقتل الملاريا في بعض أنحاء العالم نصف الأطفال الذين أعمارهم أقل من خمس سنوات. في منتصف القرن العشرين حدثت المعجزة، واكتشفت عقاقير يمكنها علاج هذا المرض المهيب، وارتفعت الآمال للقضاء عليه بالكامل. لكن خلال عشرة سنوات طورت الملاريا مقاومة للعقاقير. وتم تطوير عقاقير جديدة والزج بها في المعركة، ولكن النتائج لم تثبت كثيرا. وبدلا من أن يقضي البشر على الملاريا، أصبحت هناك تخوفات من أن تقضي الملاريا على البشر، على الأقل في بعض مناطق العالم، حيث ارتفعت أعداد الوفيات بسبب هذا المرض بشكل ضخم في السنوات الأخيرة. الدرس المستفاد من الملاريا هو: التطور عنيد لا يتوقف، ويزيح في طريقة أفضل جهود الطب الحديث.
- ومن الناحية الأخرى، هناك مرض فقر الدم المنجلي. بالرغم من أنه يعتبر كارثة كاملة في الولايات المتحدة، لكن هناك جانب مشرق في أفريقيا. انتقال المرض يتطلب الحصول على نسختين (واحدة من الأب وواحدة من الأم) من الجين المنجلي المطّفر. الأشخاص الذين لديهم نسخة واحدة لا يصابون بالمرض، لكن يتكون لديهم مقاومة للملاريا، وبالتالي يبقون على قيد الحياة حين يتوفى الآخرين. الجين الذي يحمل الطفرة المنجلية نشأ في سكان أفريقيا من عشرة آلاف سنة تقريبا. الطفرة نفسها هي تغيير جيني واحد بسيط؛ ليست شيئا معقدًا على الإطلاق. مع ذلك، وعلى الرغم من أنه كان هناك وقت أكبر ألف مرة للتعامل مع الطفرة المنجلية من الوقت المتاح للتعامل مع العقاقير الحديثة، لكن الملاريا لم تجد طريقة لمقاومتها. بينما أحبطت قدرة الملاريا التطورية الطب الحديث، هزمها تعديل جيني بالغ الصغر في الكائن العائل لها.
- من ناحية، هناك الـHIV. الثمن الذي دفعه البشر جراء الإيدز في العصر الحالي مشابه لما حدث في العصور الوسطى جراء الموت الأسود (الطاعون). الأبحاث الحديثة طورت عددا من العقاقير لمكافحة الإيدز، ولكن بعد فترة قصيرة –شهور، وأحيانا أيام– كانت تفقد دائما مفعولها. السبب هو التطور الدارويني. جينوم الـHIV –الفيروس الذي يسبب الإيدز– هو قصاصة متناهية الصغر من الرنا RNA، بالكاد يساوي جزء من مليون جزء من الجينوم البشري. حجمه الدقيق ومعدل تكاثره المتسارع، بالإضافة إلى العدد الضخم من النسخ التي يخفيها في الشخص المصاب، كل تلك الأمور تجتمع لتجعل منه محطة طاقة تطورية. التغيرات العشوائية أثناء تناسخ الفيروس، مضمومة للضغط الانتقائي الذي تتسبب فيه الأدوية، تسمح بازدهار طرق الفيروس في مقاومة الأدوية، في عملية داروينية مثالية. هنا، التطور يهزم الطب.
- ومن الناحية الأخرى، هناك الإشريكية القولونية، والتي تقيم بشكل طبيعي في المسالك المعوية البشرية. الإشريكية القولونية أيضا كانت البكتيريا المفضل دراستها في المعمل منذ أكثر من قرن. الجوانب الجينية والكيموحيوية فيها مفهومة أكثر من أي كائن آخر. وخلال العقد الأخير، كانت الإشريكية القولونية مادة لأكثر الدراسات التطورية المعملية الموسعة التي تم إجرائها. بتكاثرها سبعة مرات في اليوم، ظلت الجرثومة تنمو باطراد في القوارير لأكثر من 30 ألف جيل. 30 ألف جيل يساوي تقريبا مليون سنة في حياة البشر. فما الذي أدى إليه التطور؟ في أغلب الأحيان إلى الانحدار. بالرغم من أن بعض التفاصيل الهامشية لبعض الأنظمة تغيرت خلال الثلاثين ألف جيل، ألقت الجرثومة مرارًا بقطع من إرثها الجيني، بما فيها قدرتها على تشكيل بعض المكونات الأساسية للرنا. من الواضح أن التخلص من الماكينات الجزيئية، التي وإن كانت راقية لكنها مكلفة، تجعل الجرثومة تحافظ على الطاقة. وفي المقابل، لم يتم بناء شيء يقترب حتى من تلك الأناقة التي تم التخلص منها. الدرس الذي تقدمه الإشريكية القولونية هو أنه من هدم الأشياء أسهل على التطور من البناء.
- من ناحية، هناك سمكة النوتوثينيواداي في المنطقة القطبية الجنوبية، والتي تستطيع البقاء على قيد الحياة في درجات حرارة من المفترض أنها تجمد دمائها. أظهرت الدراسات أنه حدثت تغيرات جينية صغيرة بشكل تراكمي في دنا السمكة خلال العشرة ملايين عام الماضية، مانحة إياها القدرة على عمل نوع جديد غريب من مانع التجمد؛ مانع للتجمد يلتصق بنواة بلورة الثلج ويمنعها من النمو. مما يعبر عن انتصار للانتقاء الطبيعي.
- ومن الناحية الأخرى، هناك الملاريا (مجددًا). الملاريا الطفيلية الشرسة –نفس الدينامو التطوري الذي لا تؤثر فيه الأدوية البشرية– لديها نقطة ضعف مميتة؛ فهي لن تنمو في البعوضة العائلة لها إلا في درجات الحرارة المرتفعة جدا، وبالتالي فهي مقصورة بشكل رئيسي على المناطق الاستوائية. إذا كانت الملاريا قادرة على النمو في درجات الحرارة المنخفضة كان من الممكن أن يتسع رقعة انتشارها جدا. وبالرغم من وجود أعداد ضخمة منها –والتي تفوق أعداد السمكة القطبية بكثير– وعشرات آلاف السنين أمامها، إلا أنها لم تفعل. لماذا استطاعت الأسماك تطوير طرق للعيش في درجات حرارة تحت الصفر، بينما لم تستطع الملاريا العيش في درجات حرارة باردة حتى؟
في مكان ما وسط أمثلة كهذه، تقع حافة التطور.
[1] الـ DNA اختصار لـDeoxyribonucleic acid أو (الحمض النووي الريبوزي المنزوع الأكسجين)، وهو جزيء ضخم يتواجد داخل خلايا كل الكائنات الحية والعديد من الفيروسات ويحتوي على المعلومات الوراثية التي تسمح بعمل وتكاثر ونمو هذه الكائنات، وكاختصار سنستبدلها بـ(دنا) أو (الدنا) في بقية الكتاب.
[2] يشير المؤلف هنا إلى الجينات الكاذبة Pseudogenes وهي أجزاء من المادة الوراثية يعتقد أنها عديمة الوظيفة بسبب فقدانها لقدرتها على الترميز للبروتين أو بسبب أنه لم يعد يعبَّر عنها في الخلية.
[3] سيتوسع بيهي في عرض رؤيته لفكرة السلف المشترك في الفصل الثالث، وعلقنا على المسألة في مقدمة الناشر، كما سنعلق عليها في موضعها أيضا.
[4] الجينوم Genome (مفرد جينومات) أو المحتوى الوراثي أو المجموع المورثي هو عبارة عن التسلسل الكامل للدنا (أو الرنا في حالة الفيروسات الرناوية) لأحد الكائنات.
[5] النكليوتيد (بالإنجليزية: nucleotide) هي وحدة أساسية في بناء الدنا والرنا؛ فهي بمثابة الحروف الأساسية التي تكتب بها الجينات التي تنقل أوصاف الطفل من الأم والأب.