مقدمة
"مع خصوبة الطبيعة وقدرتها الهائلة، أعمالها كلها... استقرت على عدد لا يحصى من اجتماع للأشكال والوظائف الحية، التي شكلت كائنات المملكة الحيوانية من خلال التنافرات الفيزيولوجية وحدها. لقد حصلت على جميع تلك التركيبات التي لا يمكن وصفها بعدم الترابط، وكان في تنافراتها واستحالة التواجد المشترك لتعديل مقابل تعديل آخر تأسيسًا للانفصالات بين مختلف المجموعات من الكائنات الحية، كما أسست للفجوات التي وضعت الحدود الضرورية المنشِئة للتفرع الطبيعي والصفوف والرتب والعوائل".
جورجس كوفييه
Georges Cuvier, 1835
"لا أرى أي حدود لمقدار التغير في الكائنات الحية، والذي ربما يحدث على مدى الزمن الطويل عبر قوى الانتقاء الطبيعي".
تشارلز داروين
Charles Darwin, 1859
تثير قضية التطور –بشكلٍ متزايد– الكثير من الجدال والنقاش في أيامنا هذه أكثر من أي وقت مضى، منذ زمن (المناظرة الكبرى) في القرن التاسع عشر، سواءً كان ذلك في ندوة دولية مهمة أو في صفحات مجلة ليدنج Leading العلمية أو حتى في صالات العرض الجميلة لمتحف التاريخ الطبيعي البريطاني، ستجد مناقشة لكل جانب من جوانب نظرية التطور، بشدة تندر رؤيتها مؤخرًا في أي فرع من فروع العلم.
ليس صعبًا أن ندرك سبب جذب قضية التطور هذا المقدار من الانتباه، فهذه الفكرة قد لامست كل ناحية من نواح الفكر المعاصر، وقولبت هذه النظرية أكثر من أي نظرية أخرى كيفية رؤيتنا لأنفسنا ولعلاقتنا مع العالم المحيط بنا. لقد أحدث قبول الفكرة قبل مائة عام ثورةً فكرية أكثر مما فعلت الثورتين الكوربنيكوسية أو النيوتنية في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
إن انتصار نظرية التطور يعني نهاية الإيمان التقليدي بأنَّ خلق العالم قد رتب لغاية وهدف –وهو ما يسمى الرؤية الغائية teleological outlook التي سيطرت على العالم الغربي لمدة ألفي عام خلت، فوفقًا للنظرة الدارونية فإن كل ما نراه من التصميم والترتيب والتعقيد في الحياة والغائية الغامضة وراء الأنظمة الحية هي مجرد نتيجة عمليات عشوائية عمياء– الانتقاء الطبيعي. وقد آمن البشر قبل داروين بوجود حكمة إلهية تجلت في تصميمه المعجز في الطبيعة، لكن الصدفة الآن سيطرت بلا منازع، فاستُغني عن الاعتقاد بإرادة الله، وحلّتْ مكانه عجلة حظ لا يمكن توقع نتائجها. وهكذا اكتمل الانفصال مع الماضي.
وبسبب من تأثيرها في حقول بعيدة جدًا عن مجال البيولوجيا، انتشرت المعضلات المعاصرة التي تواجه نظرية التطور على نطاق واسع، وفتنت الخيال الجماهيري إلى درجة أنَّ مواضيع، كالفجوات في السجل الأحفوري أو المنهجيات المتنافسة في التصنيف –وهي مواضيع تعتبر عادة صعبة وغامضة، وتقتصر على فئة محددة– تُناقش بالتفصيل في المجلات الشعبية، بل في الصحافة اليومية. فالقول بوجود أي خطأ مهم في الرؤية الداروينية يثير حماسة الجماهير وانتباهها؛ لأنه إن عجز البيولوجيون عن إثبات المزاعم الأساسية للداروينية، التي تقوم عليها معظم هياكل الأفكار العائدة إلى القرن العشرين، فمن الواضح أن الآثار الثقافية والفلسفية ستكون هائلة، ولا عجب إذًا أن تشتعل بعد ذلك النقاشات في البيولوجيا كما لو أنها كانت شأنًا عامّا.
يوجد مبدئيًّا نوعين من المقاربات الفلسفية لهذا الجدال؛ فمن طرف يمكن للمرء اتخاذ موقف متحفظ، يرى فيه أن عقبات النظرية ضئيلة أساسًا، ومجرد شذوذات محيرة، سيتمُّ حلها بالنتيجة بطريقة أو أخرى ضمن الإطار التقليدي للنظرية. وعلى الطرف المقابل، قد يتخذ المرء موقفًا جذريًّا راديكاليًّا، ويرى أن العقبات ليست مجرد ألغاز غامضة قد تحل بعد ذلك، بل هي مفارقات أو حالات معاكسة لا يمكن تفسيرها ضمن الإطار التقليدي للنظرية، وبالتالي تشير وبطريقة ما إلى خطأ جوهري في الرؤية التطورية المقبولة اليوم.
في الوقت الذي يعترف فيه كثير من علماء البيولوجيا الذين ألفوا حول التطور مؤخرًا بوجود معضلات خطيرة، فإن الجميع تقريبًا يتبنون الموقف المحافظ في النهاية، مؤمنين بقدرتهم على حل تلك المعضلات من خلال إجراء تعديلات جزئية ضمن الإطار الدارويني.
وقد اعتمدت في هذا الكتاب المقاربة الراديكالية، وذلك عبر عرض النقد المنهجي للنموذج الدارويني المعاصر، متنقلًا بين علم الأحافير وصولًا إلى البيولوجيا الجزيئية. حاولت أن أعرض لماذا أؤمن بأن المعضلات التي تواجه النظرية كبيرةٌ جدًا وغير قابلة للحل؛ لدرجة أنه لا يوجد أي أمل لحل هذه المعضلات في ضوء الإطار الدارويني التقليدي، بالتالي لا يمكن الدفاع بعد هذه المعضلات عن المقاربة المحافظة.