مقدمة
إجمالًا، يؤكد النمط التجريبي الموجود في الطبيعة بشكل بارز على النموذج المقترح في علم الأنماط، والمسلمة الأساسية في علم الأنماط هي أن الأصناف متمايزة بشكل مطلق عن بعضها البعض، وأنها تمتلك خصائص تفريقية توجد دائمًا في كل الأعضاء القابلة للتصنيف.
مايكل دنتون، التطور: نظرية في أزمة، ص148.
كان هدفي الأساسي في كتاب التطوّر: نظرية في أزمة (1985) إثبات أنّ الطبيعة غير مستمرة في الأساس. وكما بينت، لم يتم الوصول إلى الصفات الـمُحدِّدة للصنف taxa، مثل الشعر في حالة الثديّات أو الريش في حالة الطيور، من أشكال سلفية مُفترضة عبر سلسلة طويلة من الأشكال الوسيطة (وهو ما أطلقت عليه "استمرارية الأشكال الوظيفية"1). وفضلًا عن ذلك بقيت هذه الصفات في المجموعات التي تحدّدها ثابتةً في جميع أفرادها المتنوعين جدًا2، ورأيت أنّ غياب هذه الاستمرارية الوظيفية تفرض تهديدًا خارجيًا للتدرّج التكيفي الدارويني التقليدي والادّعاء بأنّ التطوّر الكبروي macroevolution لا يتعدّى كونه امتدادًا للتطوّر الصغروي microevolution، ودافعت بقوة عن فكرة أنّه لا بد من وجود عوامل غير الانتقاء التراكمي شكّلت مسار التطوّر. وبالمُجمل، كان كتاب التطوّر نقدًا "مُباشرًا كليًا" للنموذج الدارويني التقليدي، وإشارةً إلى أنّ النظام الطبيعي هو انقطاع طبيعي وليس في استمرارية وظيفية كما يدعي علماء البيولوجيا الداروينيين.
أكّدت على أنّ التصانيف taxa مُماثلة للأشكال الهندسية المُميّزة مثل المثلّثات أو رباعيّات الأضلاع، والتي لا يمكن تحقيقها من صنف لآخر بواسطة خطوات متعاقبة صغيرة من الأشكال الهندسية.3 لذلك دافعت عن الرؤية المعتمدة على الأنماط typologtical التي ترى بأنّ الأصانيف أو الأنماط Types حقيقية وجودية للكائنات الحية ontologically ومكوّنات مُميّزة في النظام الكوني، وهو المعتقد الذي كان سائدًا في القرن التاسع عشر قبل داروين. دافع دي أرسي وينتوورث تومبسون D’Arcy Wentworth Thompson عن هذا الرأي في كتابه المشهور حول النمو والشكل On Growth and Form:
تسير الطبيعة من نمط إلى آخر بين الأشكال العضوية إضافة للأشكال اللاعضوية؛ وتختلف هذه الأنماط تبعًا لعواملها parameters الخاصة بها، فتحددها شروط الإمكانات الفيزيائية–الرياضية. ربما كانت "أنماط" كوفييه Cuvier في التاريخ الطبيعي غير منتقاة على نحو تام وغير وافرة كافية، ولكنّها أنماط؛ والسعي وراء موطئ قدم في الفجوات فيما بينها سعي دون جدوى، للأبد.4
لا أزال مُلتزمًا بهذه النظرة النمطية المتقطّعة، رغم أنّني منذ تأليفي لكتاب التطوّر تبنّيت مفهومًا أكثر بنيويّة structuralism حول النظام العضوي وخاصة الأنماط، حيث كنت مقتنعًا عند تأليفي لكتاب التطوّر بمفهوم التكيف الشامل pan–adaptationism واعتقدت بنظرة وظائفية صارمة للنظم البيولوجية. فرأيت التكيف المبدأ التنظيمي الرئيسي أو الوحيد للحياة، واعتبرت الكائنات "حُزمًا تكيفية" في الأساس، تشبه الآلات مثل الساعة، والتي كلّ صفة فيها موجودة لخدمة نهاية تكيفية خاصة. كما اعتبرت الأنماط في الأصل مجموعة محدودة مؤلفةً من مجاميع كليّة وظيفية عالية التكامل –"أنماط كوفييه Cuvierian Types" مثلما ذُكر في الاقتباس السابق– والمُقيّدة بشدة بأسباب وظيفية، مثل الآلة المعقدة، ما يمنعها حتّى من أبسط درجات التغيّر التطوّري.5
لكن لم أدرك حينها ما أصبح الآن جليًّا تمامًا (بعد ثلاثين سنة) بالنسبة لي كمؤمن بالبنيوية: رغم أنّ "القيود الوظيفية لكوفييه" قد تلعب دورًا كبيرًا في "عزل الأنماط"6، لكن صفات الأشياء الحيّة لم توجد كلها لخدمة هدف تكيفي معيّن، فكثير من الصفات الـمُستجدة الـمُميزّة للصنف –مثل الطرف خماسي الأصابع pentadactyl (رباعيّات الأرجل Tetrapoda) أو المغازل الحلزونية متحدة المركز في الزهرة (مغلفات البذور angiosperms)– تقدّم بجميع هيئاتها "طرزًا أولية" غير وظيفية لا تخدم أيّة نهاية تكيفية خاصة. تطرح هذه الأشكال غير التكيفية ظاهريًا، كما أوضح ريتشارد أوين Richard Owen في مؤلّفه البارز حول طبيعة الأطراف7 On the Nature of Limbs (قبل عشرة سنوات من كتاب داروين أصل الأنواع)، تحدّيًا واضحًا للتكيفية الشاملة. فهذه الأشكال غير التكيفية ظاهريًا تفرض بالتأكيد تهديدًا وُجوديًّا للنموذج الدارويني والوظائفي بأكمله، لأنّها تشير إلى أنّ عواملًا سببيّة غير الانتقاء التراكمي تؤدي لنهايات وظيفية وأنه لا بد أنّها لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل النظم الحية.
أولًا أحتاج أن أعرّف مُصطلحين سأستعملهما مرارًا في بقيّة الكتاب، الأول هو "المتشابه أو الصفة المتشابهة homolog"، ويشير هذا المُصطلح إلى صفة أو سمة بيولوجية فريدة مُشتركة بين جميع أفراد مجموعة معيّنة مثل الخطة الأساسية خماسية الأصابع في طرف رباعيّات الأرجل والمُشتركة بين جميع رباعيّات الأرجل. لذلك يعدّ المتشابه "صفة مُستجدة محددة لصنفها". وقد استعمل الباحثون في البيولوجيا النمائية التطوّرية (الإيفو–ديفو evo–devo) هذا المُصطلح مرارًا لوصف هذه السمات المُميزة.8 كما يصف علماء التصنيف المتشابهات بأنها "صفات مشتقة سلفية synapomorphies" أو "صفات مشتقة apomorphies"9، وقد أطلق عليها ريتشارد أوين في القرن التاسع عشر مُصطلح "الطرز البدائية primal patterns".10
الكلمة الأخرى التي أحتاج أن أعرّفها هي "غير تكيفي non–adaptive" والتي أستعملها أيضًا في كامل الكتاب. أستعمل هذا المُصطلح للإشارة إلى أيّة صفة أو هيئة للكائن الحي لا يبدو أنّها تقدّم نهاية تكيفية معينة قابلة للتصور –وبعبارة أخرى أيّة صفة لا تسهم في تكيف الكائن. هذه الصفات خفية لعين الانتقاء الطبيعي لأنّه يرى فقط السمات التي تؤدي لنهاية تكيفية. من الأمثلة على ذلك شكل ورقة شجر القيقب (صفة غير تكيفية محصورة بأنواع فردية من النباتات) أو الطرف خماسي الأصابع (مثال مُشترك في آلاف كثيرة من أنواع الفقاريّات المختلفة).
يكمن هدفي الرئيسي في هذا الكتاب الجديد في مُراجعة التحدّي الموجّه إلى المُعتقد الدارويني ودعم النمطية التي تقدّمها الصفات المستجدة والثبات الاستثنائي للمتشابهات. فضلًا على ذلك سأستكشف مدى الشك الواضح للحالة التكيفية لكثير من المتشابهات.
1–1 البنيوية والوظائفية Structuralism and Functionalism
التزم البيولوجيين لقرنين من الزمن بمفهومين متناقضين يخصّان الطبيعة الأساسية للشكل العضوي، يُسمّى أحدهما البنيوية (أو الشكلية formalism) والآخر الوظائفية.11 أشار ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould لهذين التصوّرين المُتضادَّين للنظام العضوي في كتابه بنية نظرية التطوّر The Structure of Evolutionary Theory:
تكيفت معظم الكائنات جيّدًا مع بيئاتها المُباشرة [ظروف وجودها]، ولكنها بُنيَت أيضًا على مُخططات تشريحية أساسية تتجاوز أيّ ظرف خاص. مع ذلك يبدو أنّ مبدأي الوظائفية أو البنيوية يتعاكسان في ناحية غريبة – لماذا تتجذر بُنى متكيّفة لنهايات معينة في متشابهات لا تعبّر حاليًا عن أيّة وظيفة مُشتركة (كما في مثال داروين عن الأطراف الأمامية في الثديّات)؟
إنّ اختيار أحد هذين المبدأين كأساس سببي للبيولوجيا يحدّد عمليًا موقف أيّ باحثٍ تجاه العالم العضوي ومُسبّبات النظام فيه... هل يُمكننا اعتبار خطّة النظام التصنيفي عالي–المُستوى الأساسَ، بينما نرى التكيّفات الموضعية كمجموعة من التغصّنات الصغرى... أساسٌ مبني بعظمة هائلة؟ أو هل تبني التكيّفات الموضعية النظام بكامله من القاعدة وصعودًا للأعلى؟ وقد أطلق هذا الانقسام الجدل الأساسي حول البيولوجيا قبل الداروينية.12
أ. البنيوية Structuralism
بناء على النموذج البنيوي ينتج قسم كبير من نظام الحياة ونظام كلّ كائن حي ناتجٌ عن محددات داخلية أساسية أو عوامل سببيّة تنشأ من الخواص الفيزيائية الأساسية في النظم البيولوجية والمادة الحية. بعبارة أخرى هو نظام بيولوجي لم ينشأ عن تكيّفات لتحقيق نهايات وظيفية. وغشاء الخلية من أبسط الأمثلة على هذا النمط من النظام ("النظام البنيوي")، حيث ينظّم نفسه ضمن طبقة رقيقة تغطّي سطح الخلية، فقط بسبب الصفة الكارهة للماء hydrophobic لمُحتوياته من الشحوم –أي بسبب قانون فيزيائي– بغضّ النظر عن أيّ نهاية وظيفية قد يؤديها.
اعتقد كثير من علماء البيولوجيا قبل داروين بأن هذه المحددات الداخلية، أو "قوانين الشكل البيولوجي" كما أشير إليها في القرن التاسع عشر13، تحصر طرق بناء الكائنات بعدة تصميمات أساسية قليلة أو أنماط Types، مثلما تحدّد قوانين الشكل الكيميائي أو الشكل البلوري هيئة المواد الكيميائية والبلورات ضمن مجموعات محدودة من الأشكال المحددة وفق قوانين معينة. توحي هذه الفكرة بنشوء كثير من الأشكال الأساسية في الحياة بنفس الطريقة التي تنشأ بها الأشكال الطبيعية الأخرى –بأساس من التنظيم الذاتي للمادة– وبأنها كليات أصلية genuine universals. فالبنيوية تشير –على الأقل بشكلها القائم في القرن التاسع عشر، وبالنسخة التي أُعَرّفها هنا– إلى أنّ أنماط الحياة الأساسية، وبالتأكيد كامل التقدّم التطوّري للحياة على الأرض، متأصلة ضمن الطبيعة. وبذلك لا تكون الحياة عيبًا ناتجًا عن "الزمن والصدفة" كما أصبحت ترى بعد داروين، بل جزءًا مُتوقّعًا وضروريًا من الكل الكوني.
بالنسبة لريتشارد أوين، أبو البنيوية الأنجلو–سكسونية، تتأكد بوضوح فكرة أنّ الحياة على الأرض هي نتيجة عملية طبيعية قانونية في الفصل الختامي لكتابه تشريح الفقّاريّات Anatomy of Vertebrates، والذي قال فيه أنّ مسار التطوّر كان "مُقدّرًا مُسبقًا... بسبب السعة الطبيعية أو قوة التغيير التي ارتقت بها الحيوانات الأوالي (الطلائعيّات protozoa) المخلوقة وفق القوانين إلى أشكال نباتية وحيوانية راقية".14 وكما أشار إي. اس. راسِل E. S. Russell في مؤلّفه الكلاسيكي الشكل والوظيفة Form and Function، آمن تقريبًا جميع علماء البيولوجيا قبل الداروينية في بداية القرن التاسع عشر –من بينهم أشخاص لامعين مثل كارل إرنست فون باير Karl Ernst von Baer، وإيتيان جوفري Étienne Geoffroy، وإزيدور سانت هيلير Isidore St. Hilaire، وهنري ميلن إدوار Henri Milne–Edwards، وإيتيان سير Étienne Serres، ويوهان فريدرِش ميكيل Johann Friedrich Meckel، وكارل غوستاف كاروس Carl Gustave Carus، وهينريش غيورغ برون Heinrich Georg Bronn، وثيودور شوان Theodore Schwann– بأنّ نظام الحياة الكلي ناتج عن عمليات تتبع قوانين وإن كانت غير مُحدّدة: وهي "قوانين الشكل المحيرة" المشهورة.15
كذلك أشرت للأمر في مقالة سابقة:
نظرًا لروح العصر Zeitgeist القانونية في البيولوجيا قبل الداروينية ونظرًا للطبيعة المُجرّدة الغامضة لكثير من المتشابهات وثباتها في كثير من الأنواع المختلفة من الكائنات عبر فترات شاسعة من الزمن؛ كانت رؤيتها أشكالًا طبيعية عديمة التغيّر مشابهة للبلورات أو الذرات خطوة استنتاجية صغيرة. افترض جوفري الذي ربّما كان أبرز متّبع للشكليّة formalist في أوروبا، امتلاك المتشابهات "لقدرات" مشابهة للذرات وغيرها من العناصر غير القابلة للتبدّل في العالم الفيزيائي... استعمل أوين كذلك التشبيه بالبلورة بوضوح في الفصل الأخير من كتابه تشريح الفقاريّات Anatomy of Vertebrates، ضمن سياق مُناقشة أسباب التقطع segmentation: "إنّ تكرار أقسام متشابهة في العمود الفقري وتكرار عناصر متشابهة في القسم الفقري، شبيه بتكرار البلورات المتشابهة". استعمل ثيودور شوان، أحد مؤسسي نظرية الخلية، هذه الاستعارة أيضًا، حيث رسم في الفصل الأخير من كتابه الأبحاث المجهرية Microscopical Researches مُقارنات مكثفة بين الخلايا والبلورات:
عملية التبلور في الطبيعة اللاعضوية هي أقرب تشبيه لتكوين الخلايا... هل يمكننا بذلك افتراض أنّ تكوين الأجزاء الأولية في الكائنات ليس إلا عملية تبلور... والكائن ليس سوى تجمّعًا لهذه البلورات؟... في حال تشكّل عدد من البلورات القادرة على التجمّع، فيجب أن تجتمع تبعًا لقوانين معيّنة لكي تكوّن كلًا نظاميًا أي مشابه للكائن الحي.
استعمل إرنست هيكل Ernst Haeckel هذه الاستعارة إلى حدٍّ كبير، حيث يتحدث معيدًا آراء شوان عن "الخلايا كبلورات عضوية، وعن الأشجار البلورية، وعن التشبيه بين التمثيل assimilation في الخلية ونمو البلورات في السائل الأم".16
انسجامًا مع فكرة أنّ المتشابهات أو "الطرز الأولية" هي أشكال طبيعية وكليات عامة أصلية يُفترض أن تحدث عبر الكون بغض النظر عن وُجود الحياة، فَكَر أوين في الباب النهائي من كتابه عن طبيعة الأطراف في إمكانية تحقيق المتشابهات في الفقاريّات أو مخططها الجسدي Bauplan على كواكب أخرى.17
وصف غونتر فاغنر Günter Wagner في كتابه الحديث التشابه والجينات والابتكار التطوّري Homology, Genes, and Evolutionary Innovation رؤية أوين البنيوية:
اعتقد أوين بإمكانية وصف تنظيم الجسم الحيواني على شكل "صيغة" جسمية مثل إمكانية كتابة تركيب مادة كيميائية على شكل صيغة كيميائية. مثلًا H2SO4 مجرّد صورة "للعناصر الكيميائية" (H، وS وO) ونسبها الجزيئية المجتمعة في الجزيء (أي حمض الكبريت).
فالمُضاهئات للعناصر الكيميائية بالنسبة لأوين هي المتشابهات في البيولوجيا؛ أي أنّ المتشابهات هي "الذرات" التشريحية للأجسام والتي باجتماعها بتوليفات وهيئات مختلفة تكوّن الأجسام الخاصة المختلفة للحيوانات الحقيقية.18
وكما شرحت في مقالتي المقتبسة السابقة:
يلتزم البنيويّون برؤية "غير انتقائية non–selectionist وغير تأريخية non–historicist" صارمة للعالم البيولوجي. تتضمّن قائمة البنيويّين البارزين في القرن العشرين ويليام باتيسون William Bateson (مُبتكر مفهوم علم الوراثة genetics)، و دي أرسي وينتوورث تومبسون (مؤلّف العمل البنيوي الشهير حول النمو والشكل)، وروبرت ريدل Rupert Riedl، وستيوارت كاوفمان Stuart Kuffman، وبراين غودمان Brian Goodman، وستيوارت نيومان Stuart Newman.
على الرغم من اقتناع غولد في سنواته المبكرة وفق اعترفه الشخصي بالانتقائية الشاملة pan–selectionism، لكنّه أصبح أكثر ميلًا نحو البنيوية في أواخر حياته، حيث كتبَ في بنية نظرية التطوّر: "لا أتصوّر أنّ أحدًا يمكنه أن يقرأ ابتداءً من غوته Goethe وجوفري Geoffroy ثم سيفيرتسوف Severtzov، وريمان Remane وريدل Riedl، دون أن ينشأ لديه بعض الإعجاب بمعقولية أو على الأقل بالقوة الفكرية المهمة للتفسيرات المورفولوجية خارج مجال الوظائفية الداروينية".19
وافق بالطبع جميع البنيويّون على أنّ الكائنات أبدت تكيّفات للتعامل مع الظروف البيئية الخارجية، ولكنّها اعتبرت، كما وصفها أوين، "أقنعة تكيّفية"، موضوعة مع الخطط الأساسية الجوهرية أو "الطرز الأولية". لذلك يعدّ التنوّع العظيم في أطراف الفقّاريّات –الزعانف للسباحة، والأيدي للإمساك، والأجنحة للطيران– بكامله تعديلات على الخطة الأساسية الجوهرية أو الطراز الأولي ذاته، الذي لا يخدم ضرورة بيئية معيّنة، وكما وصف غولد ذلك في الاقتباس السابق، هي "تتجاوز أيّ ظرف خاص".
رأى أوين أنّ "الطرز الأولية" تتولّد أثناء النماء عبر ما يُطلق عليه اسم "القوّة المُستقطبة polarizing force"، بينما كانت الأقنعة التكيّفية نتيجة لآلية أساسية أخرى أطلق عليها اسم "القوة التكيّفية".20 وكما نبهت في ورقة بحثية سابقة:
من الهام التأكيد على أنّ البنيوية تشير إلى أنّ النظام العضوي هو مزيج من نمطين مختلفين تمامًا من النظام، ويتولّدان بآليّتين سببيّتين مختلفتين: نظام أولي... [متضمّنًا المماثلات أو المتشابهات المُحدّدة لأصانيفها] والذي يتولّد بقوانين طبيعية، ونظام تكيّفي ثانوي تفرضه المحددات البيئية (بالانتقاء الطبيعي تبعًا للداروينية، وبالآليّات اللاماركية، وبالتصميم الذكي تبعًا لواضعي نظريّات التصميم الحاليين). يُمثّل النظام التكيّفي في الأشياء الحيّة [الذي يخدم محددات بيئية مُباشرة ومعينة] نمطًا مختلفًا كليًا من النظام، يقع خارج الإطار التفسيري للبنيوية بكاملها. يعني هذا أنّ البنيوية بحدّ ذاتها لا تقدّم تفسيرًا سببيًّا كاملًا للنظام العضوي، فالبنيوية ليست نظرية بيولوجية لكلّ شيء.21
يوجد لأصل القوانين الطبيعية التي تولّد النظام الأولي مسألتها الهامة الخاصة بها بالطبع، وقد ناقشت كما ناقش غيري آخرين في مكان آخر، بأنه قد تشير تلك القوانين إلى التصميم الذكي للكون ليكون مُلائمًا بشكل فريد للحياة22، ولكنّ مُناقشة تلك الفرضية ليست غاية هذا الكتاب.
ب. الوظائفية Functionalism
وفقًا للنموذج المقابل الذي يُطلق عليه غالبًا اسم الوظائفية، يعدّ التكيف هو المبدأ المنظم الجوهري الرئيسي أو الوحيد للبيولوجيا. في هذه النظرة، تعدّ المتشابهات المُحدّدة للنمط (الطرف خماسي الأصابع وغيرها) تكيّفات مبنية عبر الانتقاء التراكمي أثناء مسار التطوّر لتخدم نتائجًا تكيّفية مختلفة. النظام البيولوجي المبني بهذا الأسلوب عرضي، بمعنى أنّه غير مُحدّد بقانون طبيعي. يرفض متبعي الوظائفية الفكرة البنيوية التي تشير إلى أن وجود قدر كبير من النظام البيولوجي ناتج عن قانون فيزيائي، أي أنه راسخ في الطبيعة أو ناشئ عن محددات داخلية متأصلة في النظم البيولوجية أو خواص المادة الحية. تبعًا للنظرة الوظائفية، تعدّ الكائنات بجوهرها كالآلات، وتجمعات عرضية من الأجزاء الوظيفية المرتّبة لتخدم نتائجًا تكيّفية خاصة.23 بالطبع هذه هي النظرة الحالية الشائعة والسائدة، كما أنّ جميع أتباع الداروينية، وبالتالي الغالبية العظمى من علماء البيولوجيا التطوّرية، وظائفيون بالتعريف، لأنّ كامل التطوّر تبعًا للداروينية التقليدية حدث نتيجة للانتقاء التراكمي لخدمة نتائج وظيفية.
من الصعب تخيّل إطارين علميّين متناقضين تمامًا كحال البنيوية والوظائفية، حيث تشير الوظائفية إلى أنّ الوظيفة هي السابقة وهي التي تحدّد البنية، بينما تشير البنيوية إلى أنّ البنية هي السابقة وهي التي تقيّد الوظيفة. من العجيب أن تفكّر بأنّ علماء بيولوجيا بارزين رأوا أن نفس الحقائق التجريبية تشير لاتجاهين مختلفين تمامًا، كما أشار راسِل في كتابه الشكل والوظيفة:
إنّ التباين بين الموقف الغائي teleological مع إصراره على أولوية الوظيفة على البنية، والموقف المورفولوجي، مع حكمه بأولوية البنية على الوظيفة، هو إحدى أهم الأساسيّات في البيولوجيا.
يعدّ كوفييه وجوفري أعظم مُمثّلين لهاتين الفكرتين المتناقضتين، فأيّهما على حق؟ هل ترجح كفة نتائج التكيّف الوظيفي على كفة وحدة وتنوّع الأشكال العضوية، أم هل جوفري مُحقّ في إصراره على عنصر الوحدة الذي لا يمكن تفسيره من حيث التكيّف؟24
من الغريب أنّ علم اللاهوت الطبيعي الإنجليزي من القرن السابع عشر25 حتى منتصف القرن التاسع عشر التزم أيضًا بشدة بشكل شديد من التكيّفية الشاملة، الذي يؤكّد أنّ نظام الكائن الحي بكامله تكيّفي ويخدم هدفًا مُباشرًا؛ حتّى حلمات الثدي لدى الذكر، كما يدّعي جون ري John Ray!26 لهذا السبب كان التشبيه بالآلة الذي اشتهر به ويليام بالي William Paley –بأن الكائنات تجمّعات هادفة "شبيهة بالساعة" مكونة من مكوّنات تكيّفية– شائعًا بين الخلقيين creationists كما لدى الداروينيين.27 بالطبع يرى الخلقيون قبل داروين وبعده التكيّف نتيجة للصنع الإلهي، بينما يرى داروين ومن بعده من الداروينيين التكيّف نتيجة "لصانع الساعات الأعمى"، أي نتيجة للانتقاء التراكمي.
التزم العالَم المتحدّث بالإنجليزية بنسخة معيّنة من الوظائفية لفترة طويلة (الخلقيين منذ القرن السابع عشر والداروينيين منذ عام 1859) لدرجة أصبح لا يستطيع معظم البيولوجيين المتحدّثين بالإنجليزية تصور احتواء الكائنات الحية على درجة معتبرة من النظام الناشئ من محددات فيزيائية داخلية أساسية عوضًا عن العمليات التكيّفية. بالتالي ما من شكّ أنّ الادّعاء البنيوي – القائل بأنّ عالم الأحياء مبني على خطط أساسية لا تخدم هدفًا تكيّفيًا خاصًا – غريب عن البيولوجيا المتحدّثة بالإنجليزية.
1–2 التركيبة الداروينية الجديد
عندما كنت أحضر المسودة النهائية من كتابي التطور في منتصف الثمانينات، كان النموذج المسمى التركيبة الحديثة أو التركيبة الداروينية الجديد (وهي نظرة كونية وظائفية متشددة) ما زال مهيمنًا في أوساط علماء البيولوجية التطورية. ظهرت النظرية التركيبة قبل أربعة أو خمسة عقود، وذلك نتيجة دراسات قام بها مجموعة من علماء البيولوجية التطورية البارزين في منتصف القرن العشرين (علماء الوراثة، رونالد فيشر، ج.ب.س. هالدان وسيوال رايت، وعلماء البيولوجية إرنست ماير وجوليان هكسلي، وعالم الأحفوريات غيلورد سيمبسون)، وهدفت إلى تقديم هيكل تطوري وظائفي حصري.28 رغب واضعوا النظرية التركيبة في إثبات أنه يمكن تفسير جميع التغيرات التطورية – وليس فقط على المستوى التطوري الصغروي – بالانتقاء التراكمي لتغيرات تكيفية صغيرة، أو بعبارة أخرى، أن التطور الكبير هو مجرد امتداد للتطور الصغروي. وأمل واضعوا النظرية التركيبية بنفي جميع أفكار التسبب غير الداروينية من البيولوجية التطورية مرة واحدة وإلى الأبد، وذلك بالعودة إلى نموذج تطوري يعتمد حصريًا على الوظائفية والتأثيرات الخارجية. فأصبحت كل التفسيرات الأخرى للتطور مشكوك بها وغير ملائمة للعلم الحديث. وتشمل هذه التفسيرات الآراء البنيوية لريتشارد أوين والعديد من البيولوجيين قبل داروين30، وأفكار دارسي تومبسون31، وأفكار التطور الموجه orthogenesis22 والأفكار الحيوية vitalism23، والنظريات اللاماركية24، والأفكار الداخلية الأخرى التي كانت رائجةً خلال الربع الأول من القرن العشرين.
بالتالي كان التأكيد على التكيف في الفترة الممتدة من الخمسينيات إلى السبعينيات والثمانينات أكثر شدةً مما في كتاب تشارلز داروين أصل الأنواع، وخاصة في الإصدارات الأخيرة التي غازل فيها داروين لامارك.35 كما أشار غولد36، كانت الروح السائدة روح التكيف الشامل بوضوح، وكما بيّن، أثنت الكتب المدرسية الصادرة بعد احتفالية 1959 بالذكرى الداروينية المئوية "على كفاية الانتقاء الطبيعي [الانتقاء التراكمي] في تغطية كامل مجال الظاهرة التطورية في كل المستويات، من المستويات البيئية إلى الجيولوجية".37 رأى المؤلفون في أحد الكتب أن الكائن الحي مجرد "حزمة من التكيفات المتفاعلة. وأن معظم سمات الكائنات الحية تكيفات".38 وزعم مؤلف آخر: "الانتقاء الطبيعي ...[هو] المرشد الوحيد لوراثة النمط الحيواني دون غيره. فجميع مبادئ وحقائق التطور الأخرى مرتبطة به على نحو كافٍ أو مفسرة من خلاله، وقد شهد القرن التالي لعام 1859 انتصار داروين".39
لكن الإجماع الدارويني الحديث لم يمر دون ظهور بعض المنغصات، وفي عام 1985 ظهرت بعض الاعتراضات، فإضافة إلى "الورقة البحثية" المشهورة والمقروءة على نحو واسع لغولد وليونتين والتي تنقد الرأي "التكيفي الشامل" للنظرية التركيبية40، كانت هناك ملاحظة غولد المشهورة التي وصفت التفسيرات الداروينية في العديد من الحالات بمجرد "قصص طفولية".41 (ظهرت هذه المشاعر لدى جيري فودور وماسيومو بيتالي بالماريني في كتابهم الحديث ما الذي أخطأ داروين بفهمه What Darwin Got Wrong).42 بنفس الوقت، وضع غولد بالتعاون مع نيلز إلدريدج Niles Eldredge النموذج المتقطع أو النقطي punctuational، الذي يُظهر غياب الأشكال الانتقالية في السجل الأحفوري، وهي حقيقةٌ صورتها ملاحظة غولد الساخرة الأخرى بأن غياب الأشكال الانتقالية كان "سر الصنعة في علم الأحفوريات".43 أثبت غولد، ربما أكثر من عالم معاصر آخر، المنظور البنيوي في كتابه بنية النظرية التطورية من خلال مراجعة متعاطفة لآراء علماء البنيوية الرواد في القرن التاسع عشر والقرن العشرين وبانتقاده موقف التكيف الشامل.
كانت إحدى الأعباء الأخرى التي أثقلت التركيبة الجديدة الجدل الذي اندلع في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات عن المنهج الكلادستي الجذري radical cladism (يشار إليه غالبًا بالكلاديزم الطرازي) لكولين باتيرسون Colin Patterson وباحثين آخرين في متحف التاريخ الطبيعي في جنوب كينسنغتون في لندن. (الكلاديزم أو التصنيف التفرعي الحيوي هي طريقة لتصنيف الكائنات وفق سماتها المستجدة المشتركة فقط دون النظر إلى أي افتراضات تطورية). وقد أشارت ضمنًا المعروضات والنشرات الجديدة التي تشرح النهج الكلادستي الجديد في علم التصنيف إلى أن السجل الأحفوري لا يحتوي أي نوع سلفي مباشر، بل يحوي أنواع إخوة فقط، وهو زعم يحمل الرسالة الواضحة التي يعتنقها كل من يرى أن الأصنوفات الرئيسية مميزة، ولم يتم الوصول إليها عن طريق الأشكال الانتقالية.44 صبت مجلة نيتشر جام غضبها على المنشورات المختصرة عن الكلاديزم في افتتاحية هستيرية بعنوان "موت داروين في جنوب كينسينغتون" واستشهدت بحدة بمنشور يحتوي وفق ما أشار إليه المحرر "عبارة مراوغة" وكانت هذه العبارة "إن كانت نظرية التطور حقيقية".45
من السهل فهم قلق نيتشر، نظرًا لنوع الزعم الذي زعمه بعض أكثر أتباع الكلاديزم جذرية. علق كيث تومبسون Keith Thompson مثلًا على الكلاديزم الطرازي: "طرحت فرضية مضادة لفرضية التطور الدارويني ... فرضية كلاديزتية جديدة ترى بأن البحث عن الأسلاف مهمة حمقاء، وبأن كل ما نستطيع القيام به هو تحديد علاقات المجموعات الأخوة من الأصنوفات أحادية السلف المشترك استنادًا إلى تحليل الصفات المشتقة".46 ولمراجعة متعمقة للجدالات التي طرحها أتباع الكلاديزم الطرازي في لندن وفي المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي في نيويورك خلال الثمانينات والتسعينات، انظر الفصل السادس في كتاب ديفيد ويليامز David Williams ومالتي إباش Malte Ebach أسس علم التصنيف والجغرافيا الحيوية Foundations of Systematics and Biogeography.47
كان هناك أيضًا الرأي المقلق لعالم الوراثة الياباني موتو كيوراMotoo Kimura 48، الذي أشار إلى تنامي الأدلة على أن أكثر التغير التطوري على المستوى الجزيئي كان محايدًا واستمر في العديد من الحالات بمعدل منتظم. كان رأي كيمورا يُعد هرطقة آنذاك، حيث كان الرأي التقليدي للغالبية العظمى أن جميع أسس الجينوم وظيفية. واعتُبِر اقتراحه تحديًا كبيرًا للانتقاء الشامل للنظرية التركيبة وأنه يؤدي إلى ما يسمى نظرية التطور الحيادية.
ورغم وجود تلك التعبيرات المعارضة فقد مَثَّل كتاب التطور: نظرية في أزمة أحد المنشورات القليلة جدًا في الثمانينات التي رأت الإمكانية المهرطقة بأن الطبيعة قد تكون ذات أساس متقطع من الأنماط المنعزلة والفريدة غير موصولة بوسائط وظيفية من النمط الضروري للداروينية. حاولت منشورات قليلة أخرى مثل هذا النقد المنهجي لكامل الهيكل الدارويني، وبخاصة نقد زعمه الجوهري بأن الانتقاء التراكمي هو المحرك الوحيد أو الأكبر في التغير العضوي، وأنه يمكن تفسير كل نظام الطبيعة والابتكار التطوري من خلال استنباط بسيط للتطور الكبير من التطور الصغروي.49 لكن الأمور تغيرت كثيرًا اليوم!
1–3 النقد المتنامي
منذ نشر كتاب التطور: نظرية في أزمة، حصلت تقدمات واكتشافات هائلة في العديد من مجالات البيولوجيا؛ مثل علم الأحفورات وعلم الجينوم والبيولوجية النمائية. في عام 1985 كان مشروع الجينوم قد بدأ للتو، وكان الباحثون في البيولوجية النمائية قد بدؤوا لِتوهم في تطبيق المعرفة الجينية الجديدة لتقديم وصف جيني جزيئي مفصل للنماء. كان المجال الجديد الإيفو–ديفو (البيولوجية النمائية التطورية) قد ظهر للتو، وكذلك كانت الأدلة الأولى عن النموذج الإطاري فوق الجيني epigenetic paradigm الجديد50، مع إدراك أهمية ظاهرة التنظيم الذاتي كمولد للنظام الناشئ فوق الجينات، أي "نظام مجاني" غير الدارويني.51
خلال العقود الثلاثة التالية، بدلت هذه التطورات البيولوجيا، وبخاصة الفكر التطوري، مؤديةً إلى نقدٍ متنامٍ ومستمر للانتقائية الداروينية الشاملة في العديد من الأمكنة التي رددت بعضًا من أفكاري الأساسية في كتابي السابق. وبالفعل من الأمور المعترف بها على نطاق واسع أن أحد التحديات الرئيسية التي تواجه البيولوجية التطورية اليوم هي تفسير أصل المتشابهات المستجدة التي تحدد الأصنوفة وتعزلها في نفس الوقت. إدراك أن هناك فعلًا صفات مستجدة محددة لصنفها اعتراف ضمني بإمكانية وجود الفجوات فعلًا، واعتبارها جزءًا من نظام الطبيعة، وليس مجرد أخطاء في أخذ العينات – وهي المسلمة الأساسية التي استند إليها مذهب الأنماط في القرن التاسع عشر.
في كتابه التشابه، والجينات، والابتكار التطوري (2014) يبدي غونتر فاغنر Günter Wagner، وهو باحث رائد في مجال الإيفو–ديفو، تعاطفه الواضح مع أفكار النمط قبل داروين. مشككًا في فكرة أن المتشابهات "أنواع بالاسم فقط ...خلاصات بسيطة اعتباطية للبنية والاختلاف الظاهري،" ويسأل فاغنر إن كانت بدلًا من ذلك "أنواعًا طبيعية"، وهي إمكانية وَصَفها "بالجدلية جدًا".52 لكن سواء كانت جدلية أم لا، مجرد استعمال المصطلح "أنواعًا طبيعية" من قبل باحث رائد في الوسط العلمي مهتم في السببية التطورية يوضح مدى الشكّ بالداروينية التقليدية في بعض الأمكنة.
يصف ريتشارد بروم Richard Prum وألان بروش Alan Brush (باحثان بيّنا نمو الريشة) أفكار كثير من العاملين في مجال الإيفو–ديفو عندما يكتبان:
اقترح فاغنر وزملاؤه مؤخرًا...أن البحث عن أصل الصفات المستجدة التطورية يجب أن يكون منفصلًا عن البحث عن التغير التطوري الصغروي المعياري، ويجب إعادة هيكلته ليطرح أسئلة مختلفة جذريًا تركز مباشرة على آليات أصل الابتكارات النوعية. يشير هذا الرأي لسبب فشل أساليب الداروينية الجديدة التقليدية لمعرفة أصل الريش مثل بوك (1965) Bock وفيدوتشيا Fedoccia (1985, 1993, 1999). بالإصرار على إعادة تشكيل سلسلة من الحالات الوسيطة الانتقالية الممكنة وظيفيًا والمتطورة صغرويًا، فشلت الطرق الداروينية الجديدة المطبقة على أصل الريش في التعرف بشكل ملائم على السمات المستجدة لنمو الريش ومورفولوجيته، وفشلت بالتالي في تفسير أصله على نحوٍ كافٍ. يكشف هذا الفشل ضعفًا متأصلًا في محاولات الداروينية الجديدة لتركيب التطور الصغروي والكبير. بالعكس، تركز النظرية النمائية لأصل الريش مباشرة على تفسير الصفات المستجدة النمائية الفعلية الضالعة في أصل الريش وتنوعه (Prum 1999). إنّ إعادة هيكلة البحث للتركيز مباشرة على تفسير أصل الصفات المستجدة التطورية للريش تنتج منهجًا أكثر إنتاجًا وملائمةً مفاهيميًا.53
وبنفس الأسلوب، عنون دوغلاس إروين Douglas Erwin إحدى ورقاته البحثية "التطور الكبير أكثر من مجرد جولات معادة من التطور الصغروي"54 وفي ورقة أخرى، رأى إروين وزميله أريك ديفدسون Eric Davidson أن التغيرات التطورية الصغروية غير قادرة على تفسير الأصول أو التغيرات الجذرية الحاصلة فيما دعوها الشبكات الجينية التنظيمية الصميمة التي تساهم في توليد العناصر المورفولوجية الأساسية في كل الكائنات.55 جيري كوين Jerry Coyne دارويني ملتزم، ذكر رفض إروين وديفدسون لاستنباط التطور الكبير من التطور الصغروي في مراجعته لورقتهما:
[يقترح] ديفيدسون وإروين أن أصل الفروع الحيوية الأعلى مثل الشعب، يتضمن آليات غير عمليات التطور الصغروي العادي المعتقد أنها تسبب الانتواع. ويزعمان أن "النظرية التطورية التقليدية المرتكزة على انتقاء تغيرات صغيرة متزايدة" لا يمكنها تقديم "تفسير للتطور من ناحية التغيرات الديناميكية في البرنامج الجيني المنظم لنمو المخطط الجسدي".56
يشكّ غوتنر فاغنر، المذكور سابقًا، أيضًا باستنباط التطور الكبير من التطور الصغروي ويزعم أن أصل الصفات المستحدثة الكبيرة متعذر التفسير بالخطوات الداروينية التدرجية، رويدًا رويدًا. أحد نقاطه الأساسية في كتاب التشابه، الجينات والابتكارات التطورية هي أنه في حين تلقي تغيرات التطور الصغروي الضوء على أصل الصفات المستجدة على نطاق صغير، قد لا تستطيع تفسير الصفات المستجدة التطورية الكبيرة مثل الصفات المستجدة الكبيرة المحددة للأصنوفات العليا المناقشة في هذا الكتاب. كتب فاغنر:
السؤال عن كيفية نشوء المخططات الجسدية المعقدة ليس في متناول علم وراثة الجماعات [الذي يُعّرَف بالتغير في التواترات الجينية في الجماعات، أي التطور الصغروي] وكذلك الأسئلة عن الكيفية الممكنة لنشوء الكائنات المعقدة من الطفرات العشوائية والانتقاء.57
إحدى النقاط الأساسية المشار إليها في كتاب واغنز هي زعمه (في إعادة لتفريق أوين بين المتشابهات أو "الطرز الأولية" وأقنعتها التكيفية) أن العمليات التي أدت إلى الصفات المستجدة التطورية الكبيرة مختلفة عن العمليات التي تسبب تعديلات تكيفية. يناقش فاغنر:
الصفات المستجدة تتطلب غالبًا عمليات إعادة تنظيم واسعة النطاق للشبكة الجينية المنظمة. تتضمن إعادة تنظيم الشبكة الجينية المنظمة ... إنشاء عناصر تنظيمية مقرونة cis مستجدة، وعلى العكس من ذلك غالبًا ما تشتمل التعديلات التكيفية فقط على تعديلات عناصر تنظيمية مقرونة cis موجودة مسبقًا.58
وأقر سكوت جيلبرت Scott Gilbert مؤخرًا وهو أحد الأصوات المعارضة الأخرى: "قلت رسميًا في ورقة علمية عام 1996 إذا لم تتم مراجعة نموذج علم وراثة الجماعات في البيولوجية التطورية بوساطة علم وراثة النماء، فسيصبح حالها في البيولوجية كحال الفيزياء النيوتونية في الفيزياء الحالية".59
تتطرق العديد من المنشورات الحديثة لنواحي من الثورة الحالية، مثل كتاب بيغليوتشي Pigliucci ومولر Müller التطور: التركيبة الممتدة60، وكتاب والاس أرثر التطور: منهج نمائي61، وكتاب سوزان مازو Suzan Mazur ألتنبرج 16 وكتاب فودور وبياتيلي بالماريني ما الذي فهمه داروين خطًا.62 الجزء الأول من آخر كتاب يقدم مراجعة نقدية حادة للحالة الراهنة للداروينية التقليدية. يستشهد المؤلفان بالعديد من الباحثين الحاليين في مجال الإيفو–ديفو لإثبات أن هناك استياءً منتشرًا لاستنباط التطور الكبير من الصغروي، ويرى بأن الانتقاء الطبيعي "لا يمكن أن يكون القصة الكاملة حول تطور الأنماط الظاهرية".63 ثم يكملان بالقول: "في الواقع، عند قراءتنا للأدبيات الحالية ...التي لا يجادل فيها هذه الأيام".64 يكتبان استنادًا إلى شكهم "بنموذج قيود الإيفو–ديفو" الذي يطلعنا عن كثير من الأبحاث في البيولوجية التطورية هذه الأيام:
على النقيض من الرأي التقليدي، هناك حاجة للتأكيد أن الانتقاء الطبيعي ضمن الصفات المتولدة عشوائيًا لا يمكن أن يكون المبدأ الأساسي للتطور لوحده. بل لا بد من قيود داخلية قوية، وحاسمة غالبًا... لخيارات النمط الظاهري الذي يعمل عليه الانتقاء الخارجي.65
يستنتج فودور وبتالي بالماريني بعبارة تلخص الموقف الذي سأدافع عنه طوال هذا الكتاب (وأيضًا تعيد تمييز أوين بين المتشابه [اللحن] والقناع التكيفي [ضبط آلة البيانو]): "نعتقد بأن الانتقاء الطبيعي يشبه ضبط البيانو، وليس تأليف الألحان. هذه قصتنا، ونعتقد أنها القصة التي تخبرنا بها البيولوجية المعاصرة عند تأويلها بشكل ملائم".66
مازال هناك العديد من الشخصيات الرائدة مثل مايكل روس Michael Ruse67، وجيري كوين68، ودانيل دينيت Daniel Dennett69، وريتشارد دوكينز70، من الملتزمين بشدة بهيكل تكيفي شامل وبفكرة أن الظاهرة التطورية الكبيرة كلها، من أصل الحياة إلى أصل البشر، يمكن أن تفسر عمومًا بنفس الآلية، الانتقاء التراكمي، الذي يعمل على المستوى التطوري الصغروي. لكن إلى جانب هؤلاء الداروينيين المتعصبين، هناك الآن مجموعة متنامية من المعارضين ضمن التيار العام للبيولوجية التطورية! يرى عدد كبير من الباحثين حاليًا، وخاصة في المجال الجديد الإيفو–ديفو، أن التطور الكبير يتطلب هيكلًا تفسيريًا مختلفًا عن هيكل التطور الصغروي؛ فهم يؤكدون الفكرة الرئيسية لكتاب التطور: نظرية في أزمة.
1–4 نظرة عامة
سأناقش في هذا الكتاب الجديد أن الطبيعة مازالت أساسًا نظامًا متقطعًا بنفس الحالة التي وصفتها في كتابي التطور، مؤلفة من مجموعة محدودة من الأشكال المادية المستقرة المميزة الأنماط. وسأثبت، بدراسة مفصلة للعديد من المتشابهات المحددة للنمط والمدروسة جيدًا (مثل الطرف رباعي الأرجل والريش وغيرها)، أن محاولة تفسير العديد من هذه المتشابهات عبر الانتقاء التراكمي الدارويني تطرح مشاكل عويصة. وسأبين أيضًا أن التقدم الحاصل منذ عام 1985 لا يدعم المزاعم الداروينية، بل على العكس، مازالت الفجوات أو الانقطاعات المشار إليها في كتاب التطور "واسعة كما كانت دائمًا"، وخاصة عند إعادة تقييمها من منظور بنيوي structuralist perspective.
بالانتقال إلى ما وراء أطروحتي الأصلية في كتاب التطور، وتماشيًا مع الأفكار البنيوية، أجادل هنا أن كثيرًا من المتشابهات لا تبدو أنها تخدم نهايات وظيفية معينة إطلاقا. كما سأبين بأن هذه الحقيقة تطرح تحديًا إضافيًا للتكيف الدارويني الشامل مما يدعم نقدي الإجمالي للوظائفية الداروينية.
سأنظر أيضًا في بعض الصفات المستجدة المحددة للنمط التي لم تناقش في كتاب التطور مثل نزع نواة الخلية الحمراء الثديية (سمة محددة لصف الثدييات)، والذي كان محور أطروحتي في الدكتوراه في كلية كينج في لندن في أوائل السبعينات.
ونظرًا لطول هذا الكتاب بالأصل فقد حذفت قصدًا مناقشة مجموعة كبيرة من التحديات المتنوعة للمعتقد الدارويني التقليدي: التحديات الناشئة عن تكلفة الانتقاء (رغم التطرق لهذا الموضوع في مناقشة تطور اللغة)71، والتحديات الناشئة عن سرعة التغير التطوري في المستوى الجينومي والدلائل المتزايدة بأن الانتقاء لعب دورًا هامشيًا فقط في تجميع الجينومات72 والتحديات الناشئة عن مقتضيات مشروع موسوعة عناصر DNA أو ENCODE، التي تشير إلى أن كثيرًا من الجينوم قد لا يكون خردة، كما افترض لمدة عقود.73
حذفت أيضًا مناقشة مشكلة تساوي البعد أو الانعزال المتساوي لأفراد فرع حيوي معين عن أنواع مجموعة خارجية معينة وذلك في المستوى الجزيئي والجيني. في حين أن هذه الظاهرة المذهلة ما زالت تحديًا للقصص الداروينية كما كانت من قبل، إلا أن شي وانغ Shi Huang راجعها بالتفصيل في عدد من الأوراق البحثية الحديثة. حيث أثبت أن إمكانية تفسير ظاهرة تساوي البعد ممكن فقط في حال اشتمال أصل الأنماط المختلفة على عوامل سببية أخرى بالإضافة إلى الانتقاء الطبيعي والانزياح، وإذا كان أصل الأنماط الرئيسية قفزيًا، وليس العملية التدريجية التي يصفها المعتقد الدارويني التقليدي.74
بالإضافة إلى ذلك حذفت أي نقاش لما أراه مشاكل صعبة المراس في الهيكل الدارويني؛ كأصل الإحساس والعقل. حيث بيَّن توماس ناجل Thomas Nagel مؤخرًا هذه المشكلة في كتابه العقل والكون.75 كما حذفت أي مناقشة تفصيلية للمشكلة المطروحة على الداروينية بالتعقيد التكيفي الشديد للكائنات الحية. ولا زلت أعتقد بنفس القوة وقت تأليف التطور أن التجربة والخطأ لا يمكن أن تحقق أي نوع من التكيفات المعقدة المنتشرة عبر كامل المملكة من المستوى الجزيئي إلى مستوى الأعضاء. لكن كثيرًا من المؤلفين في حركة التصميم الذكي قد عرضوا هذه الحجة ببراعة على مدى العقد الماضي.76
رغم أن هذا الكتاب بالأساس هو نقد للوظائفية المتزايدة الداروينية، كما كان كتاب التطور، إلا أنه أيضًا دفاع منهجي عن علم الأنماط؛ أعمق بكثير مما ورد في كتابي الأصلي. من الواضح أنه في حال فشل المشروع الدارويني وعدم إمكانية الوصول إلى المتشابهات المحددة لأصنافها عبر الاستمرارية التكيفية، فإن فكرة أن الأنماط أصناف حقيقية في نظام الكون، تمامًا مثل الذرات أو البلورات؛ هي فكرة مدعومة بديهةً.
أعتقد، بالتوازي مع أوين والعديد من بيولوجيي القرن التاسع عشر، أن الحياة جزء لا يتجزأ من الطبيعة يتبع قوانين محددة وأن الأشكال الأساسية للحياة مندمجة بطريقة ما في الطبيعة. أرى أن هذه الفكرة مدعومة بشكل كبير جدًا بدليل من علم الكونيات في القرن العشرين؛ وهو أن قوانين الطبيعة مضبوطة بدقة لملاءمة الحياة. بالتالي فهذا الكتاب حكمًا دفاع عن نظرة كونية نمطية مشابهة للنظرة التي وصفها العديد من بيولوجيي القرن التاسع عشر: المتشابهات المحددة لأصنافها تمثل مجموعة خاصة من الأشكال الطبيعية التي تكون أحجار بناء ثابتة للعالم البيولوجي.
إذا كانت الأنماط (أو بدقة أكثر، المتشابهات التي تحددها) بالفعل أشكالًا طبيعية، فلا يمكن تفسير أصلها أبدًا بالانتقاء التراكمي. وبالتالي فإن فشل الداروينية كتفسير شامل للحياة فشلٌ حتمي. سأنظر في الفصول النهائية للكتاب في بعض المجموعات الجديدة من الأدلة التي تدعم المفاهيم قبل الداروينية "للطرز الأولية" المحددة لأصنافها باعتبارها أشكالًا طبيعية ناشئة عن التنظيم الذاتي لأصناف معينة من المادة، والأنماط التي تحددها كموجودات حقيقية أنطولوجيًا، وجزء من نظام الكون الثابت المبني على قوانين.
في البداية، أود أن أذكر نقطة مهمة في الدفاع عن أوين وبيولوجية "قوانين الشكل" في القرن التاسع عشر بالإضافة إلى النظرة الطبيعية لهذا الكتاب. إن فكرة أن داروين كان عالمًا في حين أن أوين كان دينيًا، وأن الداروينية علمية في حين أن النموذج البنيوي النمطي المعاكس شبه ديني وغير علمي، مجرد هراء بل العكس هو الصحيح.
في التحضير للنسخة النهائية من هذا الكتاب، صادفت اقتباسًا فاضحًا يصور التحيز العميق في الفكر البيولوجي الحديث ضد أوين وعلم الأنماط في القرن التاسع عشر. ففي ورقة علمية منشورة عام 2009، زعم البيولوجي التطوري البارز ماسيمو بيغليوتشي Massimo Pigliucci أن البدء بالبيولوجية التطورية الداورينية "قد نقلها من اللاهوتية الطبيعية إلى العلم التجريبي... وفجأة أبعد مفهوم التطور البيولوجيا عن فكرة شبه دينية، وتركت البيولوجيا اللاهوت الطبيعي لبالي Paley (1802) إلى الأبد لتدخل عالم العلوم المحترمة، كما سبقتها الفيزياء بقرنين".77
لكن كيف يمكن أن يكون إطار عمل مثل إطار أوين، الذي يفترض قانونًا طبيعيًا كتفسير للأنماط وتطور الحياة، إطارًا غير علمي؟78 وكيف يمكن أن تكون القصة الداروينية، والتي هي سرد تاريخي يصف سلسلة من الأحداث العرضية، "مثل الفيزياء تمامًا"؟
بالطبع نظرة أوين هي التي "مثل الفيزياء تمامًا" في حين أن آراء داروين أبعد ما يمكن تصوره عن الفيزياء! بالطبع كان أوين مسيحيًا، مؤمنًا، يعتقد بالغائية.79 لكنه عند سعيه في معرفة القوانين الطبيعية التي تولد الأشكال العضوية الأساسية المميزة للحياة على الأرض، كان يضع مسألة الشكل العضوي في سياق العلوم التجريبية.
سنستكشف في الفصل التالي جزءًا من سبب انتشار نظرية داروين كعلم، أي الأدلة على قوة الانتقاء الطبيعي. وسنرى أيضًا، بأن الأدلة محدودة جدًا فيما يتعلق بتفسير الصفات المستجدة الأصيلة في الكائنات الحية.