مقدمة
في خريف عام 1980 اكتسح رونالد ريجان الانتخابات الرئاسية الأمريكية متفوقًا على خصمه جيمي كارتر، وبهذا عاد الجمهوريون إلى صدارة المشهد السياسي وصارت لهم الرئاسة ثم الأغلبية في مجلس الشيوخ للمرة الأولى منذ ربع قرن تقريبًا. ونظرًا لأن التيار المحافظ أو الديني هو الذي كان له الفضل الأول في هذا الفوز الكبير، فقد توقع الجميع حسم المسائل الخلافية في هذا الوقت بين المحافظين والليبراليين، وأبرزها قضية الإجهاض.
بعد شهور قليلة من تولي ريجان منصبه تشكلت لجنة قضائية من مجلس الشيوخ للنظر في التشريعات والقوانين، ومنها انبثقت لجنة فرعية subcommittee للنظر في تشريع الإجهاض بالمنع أو السماح برئاسة السيناتور جون إيست من ولاية كارولينا الشمالية، واستمعت اللجنة على مدار شهور أبريل ومايو ويونيو 1981 لعدد كبير من العلماء والمحامين وعلماء الأخلاق والناشطين السياسيين من الطرفين، وكانت تهدف إلى تشريع متى تبدأ حياة الطفل: من لحظة إخصاب البويضة أم بعد ذلك؟
في صباح الأربعاء 20 مايو 1981 تقدم للشهادة أمام هذه اللجنة البروفيسور (جيمس نيل James Neel)، رئيس قسم علم الجينات في كلية الطب بجامعة ميتشجان وعضو الأكاديمية الوطنية للعلوم في أمريكا، في كلمته أشار البروفيسور نيل إلى أنه من المستحيل أن نتناول موضوع متى تبدأ حياة الإنسان دون التطرق إلى مقدمة في مفاهيم نظرية التطور، وأن الجنين البشري يمر بعدة مراحل أثناء نموه داخل الرحم، وأن القاعدة العلمية تقول: Ontogeny recapitulates Phylogeny؛ أي أن مراحل نمو الجنين تلخص مراحل تطور الإنسان، فهو يبدأ ككائن وحيد الخلية داخل الرحم ثم يشبه الدودة ثم السمكة ثم السلحفاة ثم الدجاجة ثم الخنزير حتى يصل إلى الإنسان[1]!! وهي نظرية خاطئة وضعها العالم الألماني إرنست هيكل المعاصر لداروين واعتمد فيها على رسومات مزورة وعليها انتقادات قاسية جدًا[2].
المقصود عند القوم أن الجنين لا يظهر أي علامات بشرية إلا في المراحل الأخيرة من نموه، وبالتالي فهو ليس إلا مخلفات تطورية ولا يملك الصفات التشريحية والوظيفية التي يملكها البشر، وبالتالي أيضًا لا يصح اعتباره بشرًا من الناحية القانونية ولا يصح أن تكون له الحقوق القانونية للبشر مثل حق الحفاظ على حياته حتى يبلغ المراحل الأخيرة من النمو داخل الرحم. وبناءً على هذا فتشريع الإجهاض في ضوء نظرية التطور على حد تعبير الجراح (جورج كريل George Crile) من ولاية أوهايو في مقال له في الميديكال تريبيون عام 1985: لماذا لا نسمح بالإجهاض عندما يكون الجنين ليس أكثر من أحد كائنات الماء المالح؟![3]
طبعًا لدينا في الإسلام منظور مختلف تماما، فلا يجوز إجهاض الجنين بعد نفخ الروح فيه، ولأن نفخ الروح أمرٌ غيبيٌ لا يمكن معرفته إلا عن طريق الوحي، فقد ورد في الحديث الصحيح أنه يكون بعد 42 يومًا من حياة الجنين. وهذا طبعا مخالف لما تطرحه نظرية التطور الداروينية بخصوص متى يكون الجنين بشرًا له حق الحياة ولا يجوز الاعتداء على هذا الحق وهذه الحياة، ومتى يكون مجرد نفاية من مخلفات الأسلاف السابقين من الديدان والأسماك والبرمائيات والزواحف والثدييات يجوز إجهاضه والقضاء على حياته والتخلص منه.
هذا فيما يتعلق بالاختلاف بين الإسلام والفلسفة المادية فيما يتعلق ببدء الحياة، فماذا عن نهاية الحياة؟
في عام 1979 كتب البروفيسور الراحل (جوزيف فليتشر Joseph Fletcher) العالم المتخصص في الأخلاقيات الطبية مقالاً ينتقد فيه التعريف الحالي لموت الدماغ بأنه موت المخ بالكامل، مشيرًا إلى أن هؤلاء المحرومين من الوظائف العليا للمخ مثل التفكير والذكاء لا يصح اعتبارهم أشخاصًا بغض النظر عن كون سائر الأعضاء والأجهزة الحيوية تعمل بانتظام، وبغض النظر عن كون عملياتهم الحيوية تعمل بصورة تلقائية، أو على حد قوله: «إذا ذهب المخ cerebrum وظل جذع المخ brainstem أو المخ المتوسط midbrain فقط يحافظ على الوظائف الدورية تعمل، فهؤلاء مجرد أشياء وليسوا أشخاصًاobjects not subjects»ـ.[4]
واستخدم فليتشر لتأييد وجهة نظره معطيات نظرية التطور الداروينية حيث أشار إلى أن المخ الذي ورثناه من أسلافنا الزواحف هو جذع المخ brainstem الذي يتحكم في الوظائف التلقائية مثل ضربات القلب وضغط الدم والتنفس، والمخ الذي ورثناه من أسلافنا الثدييات هو المخ المتوسط midbrain الذي يتحكم في المشاعر والعواطف، أما المخ المتفرد به الإنسان Homosapien فهو القشرة المخية cerebral cortex التي تتحكم في الوظائف العليا مثل الوعي والتفكير والذكاء والذاكرة، وأن هؤلاء الذين يملكون قشرة مخية سليمة هم الذين يصح اعتبارهم بشرًا. فإذا أصاب القشرة المخية ضرر بالغ أدى إلى موتها فعندها لا يعد الفرد إنسانًا، بل هو مجرد كائن ثديي أو من الزواحف، وليس له أي حقوق قانونية[5].
يقضي التعريف الحالي والمستقر منذ عقود لموت المخ brain death أنه يلزم توقف جميع وظائف المخ عن العمل من جذع المخ حتى مراكز المخ العليا حتى يتم إعلان موت المخ[6]، لكن في تسعينيات القرن الماضي نشطت دعوات من أطباء وقانونيين لإعادة تعريف موت المخ ليشمل فقط توقف المراكز العليا للمخ، وبالتالي إعادة تصنيف أعداد كبيرة من مرضى الغيبوبة كموتى. أحد الدوافع الرئيسية لهذه الدعوات هو إتاحة عدد أكبر من الأعضاء البشرية للزرع، أو كما تقول إحدى المجلات الطبية البريطانية: «إذا تم تغيير تعريف الوفاة ليعني الخسارة المعتبرة لوظائف المخ العليا، سيكون من الممكن القضاء على حياة المريض (أو لمزيد من الدقة إيقاف قلبه لأنه سيكون أصلاً مصنفًا كميت) عن طريق حقنة سامة ثم إزالة الأعضاء المطلوبة للزرع»[7].
لكي نفهم سياق هذه الدعوات نحتاج إلى أن ندرك أنه توجد نظرتان مختلفتان تجاه طبيعة الإنسان وتعريف ما هو الإنسان، وأنه ينبني على هذا الاختلاف في وجهتي النظر توابع كبيرة جدًا فيما يتعلق بالمرضى ذوي الإعاقات العقلية. هناك وجهة النظر المادية المحضة التي تنظر إلى الإنسان وعقله على أنه نتاج للمخ المادي لا أكثر وأنه لا وجود للروح، فبالتالي يكون تلف المراكز العليا بالمخ ناقضًا لحقيقة إنسانية الفرد وبشريته. وهناك وجهة النظر الأخرى التي تؤمن بوجود الروح وأن تلف خلايا المخ مهما بلغ لا ينفي عن الإنسان إنسانيته ولا حقيقته. لكن ما يعنينا من هذا الأمر كله ليس سرد أوجه الاختلاف بين النظرتين في القضايا المختلفة، بل هو محاولة فهم لماذا هذا الاختلاف في الأصل، وجوهر الفرق بيننا وبينهم.
[1] Testimony of Dr. James Neel, May 20, 1981, in The Human Life Bill: Hearings before the Subcommitte on Separation of Powers of the Committee on the Judiciary, United States Senate, Ninety-Seventh Congress, First Session, on S. 158, a Bill to Provide that Human Life Shall be Deemed to Exist from Conception, April 23, 24; May 20, 21; June 1, 10, 12 and 18. Serial No. J-97–16 (Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1982), 77.
[2] انظر: د. جوناثان ويلز، أيقونات التطور: علم أم خرافة، الفصل الرابع: أجنة هيكل، مركز براهين، الطبعة الثانية، 2018، ص107-138.
[3] George Crile Jr., “When Does the Human Life Begin?” Medical Tribune, March 6, 1985, 22.
[4] Joseph Fletcher, Humanhood, Prometheus Books, April 1, 1979, p. 135.
[5] Ibid., pp. 163-164.
[6] According to the Uniform Determination of Death Act (UDDA), see Alan D. Shewmon, “‘Brainstem Death,’ ‘Brain Death’ and Death: A Critical Re-evaluation of the Purported Equivalence,” Issues in Law and Medicine 14, no. 2 (Fall 1998): 125–45.
[7] R. Hoffenbert, et. al., “Should Organs from Patients in Permanent Vegetative State Be Used for Transplantation?” The Lancet 350, no. 9087 (November 1, 1997): 1321.