لماذا هذا الكتاب؟!
الحمد لله، خلق الإنسان، علمه البيان، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى...
يخطئ من يتخيل أن المعرفة البشرية أجزاء مفرّقة لا يأخذ بعضها بحُجز بعض، لا سيما إذا علمنا أن التصور الصحيح للعقل –وبالتالي للمعرفة– يقضي بأن أجزائها في حالة تفاعل مستمر لا يفتر طرفة عين، إن لم يكن في المستوى الظاهر لوعي الفرد ففي المستوى الباطن له ولابد.[1] والناس اليوم بمختلف أصنافهم وشتى خلفياتهم منفتحون على كم هائل من المعارف المتدفّقة، ويتأثرون في كل لحظة لا بتداعياتها النصيّة الحرفية فحسب، وإنما بكل ما يلازمها من إيحاءات رمزية وإشارية متنوعة، بعضها في الخفاء والظهور –وبالتالي التأثير– أخفى وأظهر من بعض. ولا يكاد يسلم من سلطة هذا الواقع المعرفي المعقّد أحد، بما في ذلك الفرد المسلم، مهما نأى بنفسه، وإن كنا نرى سياسة النأي التام لا عمليّة ولا واقعيّة، إذ أن التأثر لا بد أن يواجه بالتأثير لا لكي يظل التأثر –متى كان سلبيا– في أقل مستوياته فحسب، وإنما لكي ينتقل الفرد المسلم من حالة التقوقُع والتمترُس إلى حالة من التعلُّم والتفرُّس. فيشارك بما آتاه الله من معرفة في إحقاق الحق أياً كان مصدره، وإبطال الباطل أياً كان قائله، ولكن بعلم وعدل. ولكن لا يتأتى التصور ولا الحكم بعلم وعدل مع وجود القصور المؤثر في الإحاطة بما يعين على الوصول إلى تلك الغاية الشريفة. إذ لا بد من إلمام جيد، على أقل تقدير، بملابسات العصر، وأصول معارفه، وطبيعة مناهجه، واختلاف قرائح المجتهدين فيه، لكي يتمكَّن حامل الرسالة الإسلامية من مصادرها الأصلية النقية، من تطوير أدواته المعرفية، وأساليبه الحجاجية، بما يلائم طبيعة القضايا المثارة في زمنه.
ومن هذه القضايا الملحة، والتي لم يخبُ أوارها منذ عصر التنوير (الأوروبي) إلى هذه الساعة، بل إنه لفي ازدياد، قضية العلاقة بين الدين والعلم، أو لنقُل العلاقة بين النص الديني والمسألة العلمية. والقضية المطروحة بين أيدينا في هذا الكتاب قضية متفرعة عن تلك القضية الكبرى، بل هي اليوم[2] من أهم تلك القضايا وأكثرها حساسية على الإطلاق. إنها قضية نظرية التطور بشكل عام، ونظرية التطور الدارويني بشكل خاص. تكتسب هذه القضية أهميتها الكبيرة وحساسيتها البالغة من جهتين. من جهة إيحاءاتها وتداعيتها الدينية المباشرة ومن جهة تأثيرها في تشكل المعرفة الإنسانية وتصريف السعي البشري ككل. وكما ذكرتُ في كتاب (ثلاث رسائل في الإلحاد والعقل والإيمان) لم تعد نظرية التطور بوضعها الراهن "قاصرة على محاولة تفسير الجانب الحيوي العضوي الخالص للحياة، وإنما توسعت في نطاقها التفسيري حتى اخترقت حقولاً ذات استقلال وسيادة كعلم الاجتماع والنفس والأعصاب والثقافة، فأصبح لدينا الآن ما يعرف بعلم الاجتماع التطوري Evolutionary Sociology وعلم النفس التطوري Evolutionary Psychology وعلم الأعصاب التطوري Evolutionary Neuroscience وعلم الثقافة التطوري أو نظريات تطور الثقافات Theories of Cultural Evolution"ـ[3]
ومن منطلق إدراكنا بأن الفرد المسلم لا يخلو من أن يكون بين حاجة إلى تفهم طبيعة السجال حول العلاقة بين الدين ونظرية التطور أو تجاوز مستوى التفهم الشخصي إلى المشاركة في صناعة الرأي والحكم والترجيح، أقول من منطلق إدراكنا لذلك، رأى (مركز براهين) المشاركة في تذليل ما من شأنه أن يعين المسلم على تلبية هذين الاحتياجين قدر الإمكان. وقد وقع الاختيار في سبيل ذلك على مشروع ترجمة –ضمن سلسلة مشاريع ترجمة أخرى– كتاب (أيقونات التطور) لمؤلفه جوناثان ويلز. ونحن بهذا التصرف لا نخرج عن مقصد الشارع أو نضاده، كما قد يتصور بعض ضعاف العقول وقصار النظر، وإنما نحققه ونؤكده كما فعل أئمة العلم وأساطين المعرفة من قبلنا. يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: "يقرأ المسلم ما يَحتاجُ إليه من كتب الأمم وكلامهم بلغتهم، ويترجمها بالعربية".[4]
تدور الرسالة الأساسية لكتاب (أيقونات التطور) حول فكرتين جوهريتين؛ الأولى هي إبراز مقدرة خبراء العلم الطبيعي على توظيف العلم توظيفًا أيديولوجيًا قمعيًا سلطويًا إقصائيًا متى أرادوا ذلك أو شعروا بالحاجة إليه. وأما الفكرة الثانية فهي إبراز قابلية العلم الطبيعي نفسه لأن يتحول من خلال نظرياته وفرضياته ومؤيديه إلى أساطير ذات أقانيم وأيقونات، ومرويات وسرديات، ورموز وإشارات خاصة. ليس عمل جوناثان ويلز في هذا الاتجاه جديدًا أو فريدًا بالكلية، فقد كتب فلاسفة العلم والمعرفة وعلماء الاجتماع في هذا الجانب كتابات عميقة تنفذ إلى مفاصل الإشكال وتكشف عن جذوره[5]، ولكن الشيء المختلف في عمل ويلز هو التمثيل والتدليل عملياً على هذا الإشكال الشائك بالفعل من خلال حالة معيّنة في الواقع، حالة نظرية التطور الدارويني.
نأمل أن يثري كتاب (أيقونات التطور) المكتبة العربية الإسلامية كرافد من روافد بناء التصور الصحيح قبل المشاركة في إصدار الأحكام حول هذه القضية. ولا نقصد بالتصور الصحيح أن كل ما جاء في عمل ويلز صحيح بالضرورة. فقطعا هذا غير مراد ولا ينبغي مع أي إنتاج بشري مهما بلغ علم صاحبه. وإنما المقصود أنه لكي تُفهم القصة كاملة، فإنه لا بد من الاستماع لكافة الأطراف المؤثرة فيها. والأطراف المؤثرة تأثيرًا مباشرًا في سجال نظرية التطور الدارويني كما نعرفها اليوم هي: الداروينيون الجدد وأنصار مقالة التصميم الذكي.[6]
إن الحد الأدنى مما يطمع إليه (مركز براهين) من نقل هذا الكتاب إلى العربية هو نفي الانطباع المغلوط من بعض الأذهان التي تأثرت تأثرًا سلبيًا انفعاليًا سطحيًا بالطرح الإلحادي الجديد بتوظيفاته الخاصة للعلم وتأويلاته الشخصية لمخرجاته؛ الانطباع المتمثل في تقبُّل المضامين الإلحادية لنظرية التطور الدارويني لا باعتبار قناعة ناشئة عن تأمّل موضوعي شامل متأن لكافة أبعاد القضية وتداعياتها، وإنما الانطباع المتمثل في تقبُّل تلك المضامين تأثرًا بهيمنة الخطاب الرسمي لهذا النموذج، ورضوخًا لسلطة كثير من مؤسساته في العالم الغربي على وجه الخصوص.
قبل الختام أقدم شكرًا وأترك تنبيهًا. أشكر الله تعالى أولًا على ما أعاننا عليه في مركز براهين من إتمام لهذا العمل، ثم الشكر لفريق الترجمة والتنسيق والمراجعة على ما بذله من جهد كبير لإخراج هذا العمل في ظل تزاحم الأعمال، وضيق الوقت، وشُح الدعم.
أما التنبيه الذي أود ان أتركه فيتعلّق بالترجمة. حيث أن فريق الترجمة والمراجعة عملوا تحت ظروف صعبة وواجهوا تحديات عدة لإخراج هذا العمل في فترة زمنية قياسية، وكأي عمل يُنجز في مثل هذه الظروف، فإن مثل هذا العمل لن يخلو من نقص أو خطأ، والأمل الحَسَن في القراء أن يلتمسوا العذر، ويُهدونا عيوبنا على طبَق النُصح كي نستدرك ما يحتاج إلى استدراك أو نصحح ما يحتاج إلى تصحيح في طبعات مستقبلة إن شاء الله.
د. عبد الله بن سعيد الشهري
رئيس مركز براهين السابق
[1] أو ما يدعونه مبالغة بـ "اللاوعي".
[2] نقول "اليوم" لأن لكل زمان قضاياه الحرجة وإشكالاته الخاصة.
[3] ثلاث رسائل في الإلحاد والعقل والإيمان، الطبعة الثانية، مركز براهين، ص38–39.
[4] مجموع الفتاوى (3/ 306).
[5] يُنظر تمثيلًا لا حصرًا:
فيما يتعلق بحالات الإقصاء لعلماء مبرزين حين لا يتفق طرحهم مع النموذج العلمي السائد:
Tipler, F. (2004) Referred Journals: Do they Insure Quality or Enforce Orthodoxy? In Dembski, W.(edit) Uncommon Descent, ISI Books, p. 119.
ولكتاب جامع حول الخيانات العلمية، المقصودة وغير المقصودة، في أروقة المؤسسات العلمية وممارسات آحاد العلماء:
Broad, W. & Wade, n. (1982) Betrayers of The Truth, New York.
* تم نشره لاحقا في مركز براهين (خونة الحقيقة: الغش والخداع في قاعات العلم).
وأيضا كتاب (استبداد العلم The Tyranny of Science)، لفيلسوف العلوم (بول فيرابند Paul Feyerabend)، نشر دار Polity. حول الآثار غير المحمودة لهيمنة نماذج ومناهج العلم الطبيعي.
وللمزيد بالعربية حول هذا الخصوص، يمكن مراجعة: علم اجتماع العلوم، تأليف: دومينك فينك؛ ترجمة: ماجدة أباظة. ولشواهد على تحيزات العلم والعلماء اللاواعية في كثير من الأحيان. وكتابي (ثلاث رسائل في الإلحاد والعقل والإيمان) ص 117–124، ص 205–224؛ لعدد من النقولات ورصد للآثار المتصلة بهذا الجانب.
[6] طالع أيضا كتاب (تصميم الحياة)، من ترجمة (مركز براهين). فيه يتعرف القارئ على عرض شامل لمفهوم وأدلة التصميم الذكي، مع تعليق حول أبعاد المصطلح بصيغته تلك من ناحية شرعية، ومحاولة لاقتراح بديل أنسب له.