* ملحوظة: هذه السلسلة هي من كتاب (الإجماع الإنساني) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.
ج- نموذج بوبر:
بعد أن قدم بوبر نقده الشديد للوضعية المنطقية ومنهج تحققها من العبارات، "أوضح أن النظريات العلمية فروض، قد تأتي بأية طريقة، مثلما تأتي الفكرة الفنية أو الخرافة أو الأسطورة بأية طريقة، لكن ما يميز العلم عن أي نشاط عقلي آخر هو قابليته المستمرة للتكذيب بواسطة الخبرة التجريبية"[1].
ويرى بوبر أن الميتافيزيقا لها معنى خلافًا للوضعيين، فالنظريات الميتافيزيقية العتيقة كانت وجهات نظر عن طبائع الأشياء كما هو حال النظريات الفيزيائية، إلا أن الفارق هو قابلية النظريات العلمية إلى التكذيب، ويستخدم بوبر الميتافيزيقا كخيال منتج لنظريات فيزيائية مستقبلية، فأحد سبل صناعة الفرض عند بوبر هو الميتافيزيقا، فلا يهم بوبر مصدر المعرفة، سواء كان خبرة حسية أو خرافة أو تنجيم، بل يرحب بكافة المصادر المعرفية.
كما أن الهدف عند بوبر من إعادة الاعتبار للميتافيزيقا هو العلم، أو بعبارته: إن نقدي لمبدأ إمكان التحقيق كان على الدوام ما يأتي: إن ما يؤخذ على الهدف الذي يسعى أنصار هذا المبدأ إلى الوصول إليه هو أن استخدام هذا المبدأ كمعيار لن يؤدي إلى استبعاد معظم القضايا العلمية الهامة، أي سيؤدي إلى استبعاد النظريات العلمية والقوانين العامة للطبيعة.[2]
فأي جملة وصفية ولتكن "يغلي الماء عند درجة حرارة معينة"، هي بالضرورة تحتوي على وصف عام، فالكليات الموجودة في العبارة ككلمة "الماء" لا يمكن التحقق منها، رغم بساطة القضية المذكورة، وبصرف النظر عن الاستخدام البرجماتي وتوظيف الميتافيزيقا لخدمة العلم إلا أن نقد بوبر للوضعيين المناطقة في استبعادهم للميتافيزيقا كان صحيحًا في أغلبه ومؤثرًا.
تعتمد صحة العبارة عند بوبر على إمكان تكذيبها ومقارنتها بالتجارب العملية، بدلًا من أن تعتمد على التحقق، أو بعبارته "لكي تصل القضايا أو أنساق القضايا إلى مرتبة العلم لابد وأن تكون قادرة على التعارض مع ملاحظات محتملة أو ملاحظات يمكن تصورها".[3] ورغم تحاكم الوضعية المنطقية وبوبر إلى الواقع إلا أن هناك فرقًا كبير بينهما، فالوضعية تجعل الذهن صفحة بيضاء ما عليه إلا استقراء أو ملاحظة الواقع، أما بوبر فالمعرفة عنده فروض مسبقة يقوم الباحث بمحاولة تكذيبها، والعبارة العلمية هي القابلة للتكذيب، فمثلًا عبارة غدًا ستمطر السماء عبارة علمية لأنها قابلة للتكذيب، وقد ناقشنا قبل ذلك مدى صحة أسبقية الفرض للواقع والعكس.
ما يهمنا هنا أن بوبر أقام نظريته العلمية ونظريته في المعرفة على فكرة الانتخاب الطبيعي، فالواقع سيصحح باستمرار ما يلائمه، وأن الكائن مزود بفرضيات قبلية للتعامل مع الواقع، فالبوبرية تمثل نوعًا خاصًّا من العقلانية، فبدلًا من عقلانية ديكارت الروحية أو عقلانية أفلاطون المثالية نحن أمام عقلانية جينية برمجية، وهذه هي عقلانية القرن العشرين، وسماتها ظاهرة للغاية في "الجهاز اللغوي" عند تشومسكي.
لكن متى قلنا أن نظرية بوبر في المعرفة داروينية، فبالضرورة لا صحة مطلقة ولا كذب مطلق لعبارة أو نظرية ما، وكذلك كل نظريات العلم تساهم في تطور العلم وإن كذبت، كما يساهم تطور جزء في الداروينية في الهيكل العام للكائن وإن ضمر، "فبوبر يرى ضرورة أن نحتفظ لكل نظرية بمكانتها من تاريخ العلم، فطالما أنها ساعدت يومًا على التقدم فلها فضل على علمنا اليوم، وبعض النظريات الخاطئة ربما تكون -بما أثارته من مشكلات- قد ساهمت في تقدم العلم أكثر بكثير مما ساهمت به نظريات أخرى أقرب منها إلى الصواب"[4]، وكما أن البيئة يمكن أن تحيي -"طبقًا للداروينية"- عضوًا ما بعد ضموره فكذلك يمكن للعلم أن يحيي نظرية ميتة، كما أعيد المذهب الذري الذي قدمه ديمقريطس قبل الميلاد من خلال المذهب الذري الذي ظهر مع بداية القرن التاسع عشر على يد دالتون.
خاتمة
بعد هذا العرض الموجز لأشهر فلسفات العلم، ومدى اليقين والتسويغ في العلم، يمكننا أن نعقد مقارنة بين تسويغ الجماعة العلمية وتسويغ الإجماع البشري على النحو التالي:
1- اتفاق المجتمعات الإنسانية في مباني نفسية ولغوية واجتماعية معينة ينظر بها للعالم لا تعبر عن هوى أو تحيز، والأهم أن معايير القواعد لا تتضارب ما دامت شروطًا أصلية في لعبة (صورة) الحياة[5]، بل هي صورة حياة الآدمي بلا أي تزييف، أو اتفاقات تعرف منها بنية الإنسان: المادية والاجتماعية والنفسية.
فالتسويغ في المباني الإنسانية بيّن بنفسه، بينما في العلم التجريبي يحتاج لإثبات، فلا يقين مطلق فيه، "فتوماس كون (=وغيره) لم يقدم وسيلة مقبولة أو غير مقبولة للوصول إلى اتفاق الجماعة العلمية".[6]
وبعد عجزنا عن الوصول إلى اتفاق جماعي وعجزنا عن تحديد ماهية العلم من الخرافة، ما هو المبرر الذي يجعل العلم أرقى من ميادين بحث أخرى؟
2- اللغة الإنسانية تكتسب على المستوى الاجتماعي والنفسي والمادي، بينما اللغة العلمية تكتسب في مستوى يتفوق فيه الجزء المادي بشكل كبير جدًّا، وهذا لا يعني عدم تدخل المجتمع العلمي في صياغة اللغة العلمية، بل التأثير ثابت كما ذكرت، لكن هناك حرص شديد
-بطبيعة الحال- على الماديات، وهو أمر مفيد قطعًا، لكن لا يحق للغة العلمية التقليل من شأن الخبرة الأولية لو تم اكتسابها على المستوى النفسي والاجتماعي (كالاعتقاد القديم بمركزية الأرض من خلال نظر الإنسان لقيمة نفسه)، وكذبت ماديًّا (كدوران الأرض حول الشمس وصغر حجمها بالنسبة للكون)، فلكل سياقه.
أما المشتركات الإنسانية الفطرية فيجب تحقير العلم التجريبي أمامها تمامًا لظنيته وللأسباب السابقة المتعلقة بالتسويغ وغيره.
3- "إن العلم لا يتواصل دومًا تبعًا للتنامي الخطّي للمعرفة الموضوعية، بل ممارسة اجتماعية وثقافية وتاريخية، والمعرفة دومًا قائمة في وضع معين (مموضعة)، وما يعتبر معرفة قد يتوقف على أمور ترتبط بالسلطة والتأثير".[7]
[1] فلسفة بوبر، ليمنى الخولي، ص339.
[2] الأسس الميتافيزيقية للعلم، ص76.
[3] المرجع السابق، ص82.
[4] المرجع السابق، ص89.
[5] فالاختلاف بين المجتمعات ليس في صورة الحياة الضرورية، بل في فرعيات لذلك تم التواصل رغم اختلاف ألعابهم اللغوية، لأن هناك لعبة أو مباني عقلية أو نفسية أو لغوية أو اجتماعية عامة.
[6] نظريات العلم، ص114.
[7] جورج لايكوف، مارك جونسون، الفلسفة في الجسد، دار الكتاب الجديد، ترجمة عبد المجيد جحفة، ص143.