قبل البدء...
لنتخيل معًا شابًا باحثا مُحبًا للعلم وقد ملأ الإعجاب قلبه بمحرك السيارة وأراد الوقوف على سر عمله (ولنعطي هذا الشاب مثلاً اسم س)، حيث جمع الشاب (س) مبلغا مِن المال واشترى بالفعل مُحركا مِن أحد المعارض الهندسية وعكف عليه كامل وقته ليفك أجزائه جزءًا جزءًا إلى أن وصل أخيرًا لفهم كيفية عمله وتشغيله والآن: هذا الموقف للشاب (س) سيكون محور الأمثلة معنا في هذا الموضوع بإذن الله. وذلك بعد استبعاد الفرض الإلحادي العجيب في أن معرفة كيفية عمل المُحرك = أنه لم يصممه ولم يصنعه أحد!!
1- معنى العِلم:
العِلم في اللغة العربية هو الإحاطة التامة بالشيء وحقيقته وكلياته وجزئياته، وهو بذلك المفهوم أكبر مِن مجرد المعرفة بالشيء والتي تنحصر في الإدراك الجزئي أو البسيط له، فعلاقة الشاب (س) بالمُحرك مثلا قبل فحصه والوقوف على سر أجزائه كلها توصف بأنها معرفة، وأما بعد إحاطته بكل هذه التفاصيل فتوصف بأنها قد صارت عِلمًا، ولذلك يوصف الله تعالى دومًا بصفات العِلم ولا يوصف بصفات المعرفة فيُقال في حقه مثلا: "عالِم" "عليم" "علّام" "يعلم" , لأنه المُحيط بكل شيء سبحانه أو كما قال: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12]، في حين أن أعلم البشر دينيًا أو دنيويًا لا يصح أن نصفه بأنه يعلم الله! وإنما نصفه فقط بأنه عارف بالله، لأنه لا يُحيط أحدٌ عِلمًا بالله تعالى أبدًا أو كما قال سبحانه: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110].
وجدير بالذكر هنا أن كلمة عِلم بهذا المفهوم العربي والإسلامي هي أكبر مِن كلمة (Science) في اللغة الإنجليزيةوأوسع مِنها شمولا وإحاطة، ولذلك فإن الأقرب إلى معناها هي كلمة (knowledge) رغم استخدام الإنجليز لها كثيرًا كمرادف لمعنى المعرفة!! ولذلك نجد كلمة عالِم في لغتنا العربية هي أوسع استخدامًا في معانيها وتنوعاتها الدينية والدنيوية مِن كلمة (Scientist) وهي الحديثة نسبيًا في اللغة الإنجليزية وتعني المُتخصص في العلوم الطبيعية فقط.
2- بحث الإنسان في العِلل والأسباب:
لا شك أن عِلم الإنسان بشيء ما وإحاطته به لن يتحقق إلا بالبحث في عِلله وأسبابه للوصول في النهاية إلى رؤية شاملة عنه وإحاطة تامة به، وهي الرحلة التي تبدأ مِن المُلاحظة والبحث والتجريب في توصيف الشيء وبيان كيفية عمله، وتنتهي إذا استطعنا الإجابة عن الغاية أو لماذا وجوده أو حدوثه؟ وبذلك نرى أن صنفيّ العِلل التي يُمكن للإنسان البحث فيها هي عِلل فاعِلة وعِلل غائية.
فالعِلة الفاعِلة: هي الوقوف على وصف الشيء وكيفية عمله ووقوعه –وذلك مثل الطبيب الشرعي الذي يدرس الجريمة ويصف ملابساتها بكل دقة–، وهي تستلزم أن يكون الشيء أو آثاره المادية محل الدراسة هي موجودة بالفعل ومرصودة أمام الباحث. ولكن لا تستلزم معرفة الفاعل أو الصانع نفسه في دراستها، وقد رأينا عدم تأثر الشاب (س) في كشفه لكيفية عمل المُحرك بمعرفة صانعه أم لا. وكذلك لا تتوقف صحة البحث فيها على مُعتقد الباحث أو دينه أو مذهبه في الحياة؛ متدين، ملحد، لاديني.. إلخ. فالكل مِن المُفترض أن يُعطي نفس النتائج إذا اتبع نفس السلوكيات ومنهجية البحث.
وأما العِلة الغائية: فهي الوقوف على غاية الفاعل مِن الشيء ولماذا، وذلك مثل الشرطي المُحقِق الذي يكشف شخصية المُجرم ودوافعه ونحوه، وهذه العِلة -وبعكس العِلة الفاعِلة- تتعلق بالبحث في الغائب عن حواس الإنسان الخمسة؛ السمع والبصر والشم والتذوق واللمس، وهو الفاعل غير الموجود أو دوافعه غير المادية. ويمكن تمثيلها في حالة الشاب (س) بمعرفة شخصية صانع المُحرك أو دوافعه لصنع المُحرك أول مرة ماذا كانت؟ وهنا نجد اختلافا عن العِلة الفاعِلة في تأثر العِلة الغائية بمعتقد الشخص ونظرته إلى الوجود.
فوقوع زلزال ما مثلا، فإنه تستوي معرفة كيفيته الجيولوجية ووصفه الطبيعي عند العالِم المؤمن أو الملحد، فإذا جئنا إلى تفسير الغاية أو لماذا وقع الزلزال في هذا الوقت تحديدًا أو هذا المكان فيُصيب بضرر - كتهدم البيوت وابتلاعها وموت الناس- أو يُصيب بنفع - كظهور بعض كنوز الأرض أو المتحجرات الهامة-؟ فهنا يبدأ الخلاف في الظهور بين المؤمن ويقينه مِن أن كل شيء في الطبيعة يجري بإرادة ومشيئة الله وحِكمته، وبين الملحد الذي يُريد أن يتخيل العالم وكأنه مُحرك آلي بلا غاية ولا هدف حيث تنتهي علومه بمعرفة كيفية عمله وفقط!
فإذا استوعبنا ذلك: سقط أول خلاف مزعوم بين العِلم والإيمان، حيث في الوقت الذي نجد لدى المؤمن إجابة عن كل مِن العِلة الفاعِلة والغائية لهذا الزلزال مثلا، نرى الملحد وقد تعمد استقطاع العِلة الغائية فقط مِن كلام المؤمن ليوهم الناس أنها هي الإجابة الوحيدة التي لديه لتفسير وقوع الزلزال! وأنها بذلك تكون -بالطبع- إجابة غير علمية لأنه لا يمكن رصدها ولا التحقق مِنها تجريبيًا! فنقول له: إنه كما ذكر الله تعالى في قرآنه للناس أنه هو الذي يُنزل المطر رحمة بهم أو عذابًا عليهم (عِلة غائية)، فقد ذكر في آيات عدة أخرى تفاصيل نزول هذا المطر ودورته في الطبيعة بكل إعجاز (عِلة فاعِلة)، فلماذا أظهرت الأولى وأخفيت الثانية؟!
3- حدود العِلم الطبيعي وحدود الدين:
ومِن الشرح السابق نرى أن حدود العِلم الطبيعي، وهو النظر في الموجودات مِن حول الإنسان، تنحصر في البحث عن العِلل الفاعلة في الأشياء، وذلك لغرض فهمها وتفسيرها واستخراج قواعدها وقوانينها، إما لتجنب أضرارها وإما لتطويع فوائدها، فضلا عن إرضاء الفضول العِلمي، وتعد أدوات العِلم الطبيعي في ذلك هي حواس الإنسان التي يقودها عقله لتحليل بياناتها ومُدخلاتها وتصميم تجاربها، ثم تدوين مُلاحظاتها للخروج في النهاية بالنتائج والتفسيرات والنظريات أو القوانين.
وبذلك فإن العِلم الطبيعي له شِقّان، شِق مادي تجريبي مُتعلق بالحواس والرصد، وشِق عقلي بحت في الملاحظة والاستدلال والقياس والاستقراء والاستنباط، ثم الاستنتاج وتعميم الفرضية أو القانون.
وأما الأديان، والتي يقودها عمومًا الإيمان بخالق، فهي تشمل حدود الموجودات المادية وتجعل مِنها أداة عقلية دالة عليها، ثم هي تتخطاها إلى ما وراءها مِن فاعل مُريد وغايات، وهي بذلك تتعدى حدود حواس الإنسان لتصب في استخدامه لـ (عقله) المُتدبر المُحلل المُفكر في كل ما حوله مِن أشياء وعلاقات، للوصول مِنها إلى صفات عامة يقينية عن الخالق أو الصانع، فتثبت وجوده حتمًا وربوبيته في الوجود -تمامًا كما يستطيع (س) الاستدلال على وجود صانع بالتأكيد للمُحرك، بل ويستطيع كذلك استنباط العديد مِن صفات هذا الصانع مِن غير أن يراه أو يحيط به كله، مِثل أنه لديه صفات عِلم وحِكمة ودقة وتقدير وقدرة وقوة على تشكيل المواد وتركيبها.. إلخ-، ثم تأتي مِن بعد ذلك رسالات الرُسل لتخبرنا بمُراد الخالق مِنا، والكيفية التي يريدنا أن نعيش عليها ونتصرف لنحقق إرادته فينا –وهو ما لا يمكن أن تصل إليه أبحاثنا في العِلل الفاعلة ولا في العلوم الطبيعية ولا حواس الإنسان بمفردها كما قلنا-، وهكذا يُمكننا تمثيل العِلم الطبيعي بدائرة تقع داخل دائرة أكبر وهي الدين ولا يتعارض معها، ولكن لا يُمكننا عكس موضع الدائرتين حيث لا يُمكن أن يُحيط العِلم الطبيعي بكل غايات الدين وغيبياته وإنما يُستخدم فقط للدلالة عليه وبعض صفاته.
فنحن عندما نأتي مثلا إلى تفاعل حيوي مُعين داخل الخلية الحية ونطلب مِن العلماء الطبيعيين أن يدرسوه ويحللوه ويعملوا عليه، فإننا ننتظر مِنهم تقاريرًا تترجم لنا تخصص كل مِنهم في جانب مِن جوانب المادة المرصودة أمامه أو آثارها، فننتظر تقاريرًا مثلا لعلماء الكيمياء عن تفاعلات جزيئات المواد وذراتها، وتقاريرًا لعلماء الفيزياء عن الجسيمات داخل هذه الذرات، وتقاريرًا لعلماء البيولوجيا عن تفصيل ما جرى داخل هذه الخلية الحية ككل.. وهكذا، ولكننا أبدًا لن ننتظر مِنهم تقاريرًا عن مَن الذي قرر وصمم هذا التفاعل في الأصل! ولا ماذا كان مُراده أو غايته مِنه! فذلك خارج هذه التخصصات العلمية الطبيعية كلها، وجوابه لا يمكن أن نجده عند أحدها بحال مِن الأحوال.
فإذا فهمنا ذلك: سقط ثاني خلاف مزعوم بين العِلم والإيمان، والذي صوره الملحدون في صورة عدم خضوع الدين كله للعِلم الطبيعي والتجريبي وتعارضه معه، حيث رأينا الآن أن الإشكال هو في محاولة إقحام أدوات بحث العِلة الفاعِلة للطبيعة والكون -مثل الحواس- لتبحث لنا في العِلة الغائية، وهي الخالق وإرادته وغيبيات الدين، بل والمسألة بذلك الحجم الكوني هي أعقد بالطبع مِن محاولة البحث في مُحرك الشاب (س)، وذلك لأن الشاب (س) نفسه سيكون ساعتها داخل في الطبيعة والكون مِن حوله ومؤثر فيها، فكيف سيصل إلى حل هذه المنظومة الأكبر وهو جزء مِنها؟! يقول العالم الأشهر[1] "ماكس بلانك Max Planck" أحد الفائزين بجائزة نوبل في الفيزياء:
"العِلم الطبيعي لا يستطيع حل اللغز المُطلق للطبيعة، وذلك لأنه في التحليل الأخير نكون نحن أنفسنا جزء مِن الطبيعة، وبالتالي جزء من اللغز الذي نحاول حله"[2].
Science cannot solve the ultimate mystery of nature. And that is because, in the last analysis, we ourselves are part of nature and therefore part of the mystery that we are trying to solve.
ولذلك فإن حاكمية العِلم الطبيعي على الدين تتمثل فقط في البحث والتأكد مِن نصوصه العقلية والطبيعية الكونية، للحُكم على صدق هذا الدين أو كذبه، وليس مِن شأنها نفي غيبياته بالكلية لمجرد أنها لا تخضع لأدوات بحثه المادية! فإذا تعارضت الحقائق اليقينية المُكتشفة في العِلم الطبيعي مع عقلانية ونصوص دين ما، فهي تعطي مؤشرًا للعاقل ساعتها بترك هذا الدين وأنه ليس مِن لدن الخالق الحق لكل هذا الكون وما فيه (ووصف اليقينية هنا هام جدًا لاستبعاد كل ما كان في مرحلة الفرضيات والنظريات وعرضة للتغيير)، وأما إذا تطابقت هذه الحقائق اليقينية أو أكدت صحة نصوص هذا الدين ووصف الخالق فيه بالحِكمة وكمال العلم: فهي حينئذٍ تأخذ العاقل خطوة إلى الأمام للتمسك أكثر بهذا الدين وتصديقه واتباعه، يقول عالم الفيزياء الفلكي [3]"جوزيف هوتن تايلور Joseph H. Taylor":
"الاكتشاف العلمي هو أيضًا اكتشاف ديني، ليس هناك تعارض بين العلم والدين، معرفتنا عن الله تصبح أكبر مع كل اكتشاف نكتشفه عن العالم"[4].
A scientific discovery is also a religious discovery. There is no conflict between science and religion. Our knowledge of God is made larger with every discovery we make about the world
4- متى يصير العِلم صراعًا بين الإيمان والإلحاد؟
لقد رأينا منذ قليل كيف أن البحث في العِلة الفاعِلة لا يتوقف على مُعتقد الباحث ولا دينه ولا حتى إلحاده، وذلك بخلاف البحث في العِلة الغائية والذي كثيرًا ما يتأثر برؤية الباحث المُسبقة الناتجة عن معتقده أو دينه أو إلحاده.. ومِن هنا:
فإن أي مُكتشفات أو أبحاث عِلمية –ومهما بلغت مِن قوة تغييرها لفهمنا الطبيعة والكون– فلن تستجلب صراعًا بين الإيمان والإلحاد إلا إذا تلامست مع حدود الغاية ولماذا لدى كل مِن المؤمنين والملحدين!
فاكتشاف (الكهرباء، الكهرومغناطيسية، الإشعاعات، الذرة، نواتها، الإلكترونات، الحمض النووي.. إلخ) كلها صنعت انقلابات وطفرات في نظرة العلماء والناس للطبيعة والكون، ولكنها لم تسبب خلافات كبرى بين الدين والإلحاد إلا عندما تعلقت تفسيراتها بنقطة بدء الكون أو الوجود وبدء الإنسان، حيث نرى الملحد ساعتها يتخطى حدود بحثه العلمي ليعطي تفسيرات مِن ميوله ورؤيته الخاصة لهذه المحطات الوجودية الهامة مُستميتا في إبعادها عن تفسير الخالق عز وجل!
وهذا يدل على أن الملحد –مثل المؤمن– يدخل معامل العلوم الطبيعية والتجريبية بحصيلة مُسبقة مِن الدوافع أو الغايات والرؤى غير المادية، والتي ستتحرك نتائجه حتمًا بين حدودها مهما كانت مُخالفة لها، وطالما أنه كان مثل المؤمن في ذلك –أي في وجود رؤى مُسبقة– فهل لنا أن ننظر فيمَن كانت رؤاه هي الأصح عقلا وأصدق مع النفس؟
5- المؤمن أعقل وأصدق حالا مع نفسه مِن الملحد:
إن واحدة مِن أكبر فريات الملحدين في مواجهتهم مع المؤمنين باسم العِلم، هي محاولتهم الفاشلة في إظهار محصورية صفة الموجود على المحسوس فقط، ومحصورية وسائل إدراك الإنسان التي حباه الله تعالى بها على الحواس الخمس فقط، مُتناسين بذلك أن أوثق وسائل الإدراك هي البدهيات الرياضية التي لا تحتاج إلى إثبات خارجي (مِثل قولنا 1+1=2 أو أن 4 أصغر مِن 7)، ثم يليها البدهيات العقلية التي لا تحتاج في ذهن العاقِل إلى شرح وتفسير وإثبات كذلك (مِثل أنه لكل حادِث مُحدِث، وأن العدم مفهوم ذهني لا يُخرج شيئا بدون خالق، وأن فاقد الشيء لا يُعطيه أي أن ذرات المواد والقوانين غير المُختارة لا يُمكن أن ينتج عنها وعي الكائنات الحية المُختارة، وأن الجزء أصغر مِن الكل، وأنه يستحيل تسلسل العِلل أو المُسببات إلى مالانهاية، ومِثل صحة قياس المُتشابهات ومهارات الاستدلال والاستنباط والقياس والاستقراء وهكذا)، ثم تقبع في النهاية حواس الإنسان التي قد تخدعه (مِثل رؤيته للسراب في الصحراء على أنه ماءً).
ولذلك فإن كل مُكتشفات العلوم الطبيعية لا تقوم إلا على هذه البدهيات العقلية في أبحاثها واستنباطاتها وإثباتاتها لوجود الأشياء، بالنظر فقط في آثارها ومِن غير الحاجة لرصد تلك الأشياء نفسها! ولذلك نقول إلى هذا الصنف مِن الملاحدة ومَن يصدقه أو يقع في شِباك خِداعه وكلماته: لقد تناقضت ثلاث مرات على الأقل مع إلحادك المادي وعلاقته بالعِلم الطبيعي وهم:
1- افتراضك قبل الدخول إلى معملك أن الكون (موضوعي Objective) أي قابل للدراسة والفهم، وهذا افتراض عقلي سابق على أي تجربة وغير مدعوم بالحواس الخمس، وهو ما يُناقض مبادئ الإلحاد المادي البحت الذي تحاول أن تتمثله، وذلك بعكس الإيمان -أو الدين- الذي لا يجد في مِثل هذا الافتراض أيَّ إشكال، وخصوصًا مع نفيه للعبثية والجهل عن الخالق وإرادته الحكيمة.
وإلا.. تخيلوا لو قيل للشاب (س) عن المُحرك أنه مجرد تجميع عشوائي أو تجميع طفل صغير، فهل تعتقدون أنه كان سيُنفق وقتا أو مالا للانكباب عليه لدراسته وفهمه؟!
2- افتراضك انتظام سلوك الأشياء باطراد (Consistency) وثبات القوانين (Persistency) وفعالية العلاقات الرياضية (Efficacy) للتعبير عن الحقائق والاستقراءات بالشكل الذي يتم فيه تعميم النتائج الواحدة على كل ما عداها مِن حالات في نفس سياقها رغم عدم معاينتها بعد! وكل ذلك لا غنى عنه لاستمرارية الاعتماد على العلوم الطبيعية وقبول نتائجها والعمل بها في كل مجال، وتوقع ذلك الانتظام الكوني والطبيعي هو فطرة مغروسة في الإنسان، بل وفي الحيوان نفسه أيضًا! ويمكن ملاحظتها بوضوح في تجنب كل منهما لمواضع الأذى بمجرد وقوعه في أحدها ولو مرة واحدة فقط، وهذه افتراضات عقلية مُسبقة كذلك وتناقض مبادئ الإلحاد المادي في عدم الإيمان إلا بالموجود والمحسوس في كل مرة.
3- سلوكك أيها الملحد لنفس خطوات البحث العلمي الطبيعي والتجريبي القائمة على المُلاحظة، ثم التخطيط والافتراض والتجريب، ثم الاستدلال (العقلي) المُتقبل لإثبات وجود الأشياء مِن مجرد رصد آثارها فقط، بل وتقبلك لوصف الأشياء وإلباسها أسماءها المُميزة لها مِن غير ضرورة الوقوف على كنهها أو ماهيتها وحقيقة ذاتها!
فها هو العالِم في معمله -سواء المؤمن أو الملحد- يتحدث يقيناً عن وجود الجاذبية الأرضية وهو لم يرصدها ولم يعاين بحواسه وقياساته إلا آثارها فقط، في حين تبقى ماهيتها وكنهها مجهولين عنده إلى اللحظة، وكذلك يتحدث عن الإلكترون والفوتون وعن سائر الجسيمات دون الذرية وهو لم يرها بعينه المُجردة إلى الآن، بل ويتعامل مع توزيع احتمالات حركتها وموضعها لعجزه عن رصدها وهي تتحرك في سرعاتها الرهيبة فضلا عن (مبدأ عدم اليقين Uncertainty principle لهايزنبرج)[5]، والذي يحكم بالفشل مُقدمًا على أية محاولة لرصد خاصيتين كموميتين معًا مثل السرعة والموضع للخروج بنتائج تامة 100% عنهما!
إذن المؤمن أعقل وأصدق حالا مع نفسه مِن الملحد الذي يناقض ادعاءاته علنا في كل لحظة يقف فيها في معمله وبين أدواته وفي أحضان سجلاته و تدويناته لملاحظاته.
ومعلوم أن الله تعالى قد ذكر في القرآن عِلم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، ويتمثل الفرق بينهم في مراتبهم، حيث عندما يجمع الإنسان الأدلة على وجود شيء ما وإلى أن يتيقن مِن وجوده –مثل الأدلة على وجود دولة جيبوتي مثلا– فذلك يُسمى عِلم اليقين، فإذا وقع ومر عليها بالطائرة فعلا ورآها بعينه فذلك هو عين اليقين، أما إذا نزل فيها بالفعل فهو هنا يكون قد وصل إلى أقوى مراتب اليقين وهو حق اليقين. والخالق عز وجل لم يُكلف المؤمنين به إلا بأولى درجات اليقين فقط؛ وهي عِلم اليقين.
6- اضطرار الملحد إلى عالم الغيب:
إن الرغبة الجامحة لملامسة الغيب ومحاولة فك أسراره والخروج عن حدود الملموس والمرصود هي رغبة أصيلة في عقل الإنسان وفضوله العلِمي إذا صح التعبير، إنها تشبه إلى حد كبير إنسانا محبوسًا داخل سجن صغير، وهو يعرف أن قدراته الحركية تفوق هذا الحيز المحدود الخانق بكثير. وبمثل هذه الحاجة المُلحة نجد العالِم الملحد لا يكتفي بحدود هذا السجن مِن العلوم الطبيعية التي باتت محدودة بشِقيها شِق الزمان، مثل جهل ما قبل الانفجار الكبير وزمن بلانك وجهل المستقبل الكوني في انهياره أو ثبوته، وشِق المكان، وهو صدمته في تتبع مرصود اتساع الكون بسرعات أكبر مِن سرعة الضوء أو في تتبع مرصود الجسيمات دون الذرية التي يؤثر عليها وأجهزته نفسها ساعة الرصد حيث يرصد بفوتون الضوء فوتونا ضوئيًا مِثله فيصطدمان!
إنه سجنٌ حقيقي لمَن يعلم، سجنٌ يتألم فيه العالِم الملحد نفسيًا وهو عاجز عند تلك الحدود الطبيعية، إذا ما رأى مقارنة الناس بينه وبين علماء الدين والدنيا المؤمنين، والذين يجدون في أديانهم إجابات عن ما قبل وبعد خلق الكون والمكان والزمان، ومِن هنا - وحتى لا ينسحب البساط مِن تحت قدميه- فلن نجده يرضى بمثل هذه الهزائم أبدًا إلا أن يخترع لنفسه غيبًا هو الآخر يستطيع به سد فراغاته المعرفية، ولتقديمه إلى الناس في صورة تصبرهم على الإلحاد مِثله، أو كما قيل: "مَن يُنكر الميتافيزيقا، يتفلسف ميتافيزيقا"!
ومِن هنا.. فلم يستحي الملحد أبدًا مِن أن يُحدث الناس مثلاً عما قبل الانفجار الكبير (Big bang) ولحظته المتفردة (Singularity)، وذلك رغم جهل العلوم التام بما قبل زمن بلانك (Planck time)! أو حتى يُحدثهم عن وجود الطاقة السوداء (Dark Energy) أو المادة السوداء (Dark Matter) واللتان لا يمكن رصدهما ماديًا، ولكنه يفترض وجودهما لحل لغز التوسع العظيم في الكون ولتستقيم له معادلات الفيزياء الكلاسيكية مِن جديد! أو يتلو على الناس قصص التطور (Evolution) الخيالية التي لم يُشاهد هو ولا غيره مِنها شيئا، أو نراه تأخذه الجرأة الميتافيزيقية فيُحدث الناس عن احتمالية وجود أكوان موازية (Parallel Universes) لا نراها -وكما عند المؤمنين- أو حتى وجود أكوان مُتعددة (Multiverse) رغم أنه لا يُمكن رصدها نظريًا بسبب محدودية أقصى مسافة مِن الجسيمات الحاملة للمعلومات عن الكون أو ما يُسمى بأفق الجسيم (The particle horizon)!
والآن.. هل يمكن لأي ملحد شجاع أن يُقارن كل هذه الإيمانيات الغيبية الميتافيزيقية الإلحادية باتهاماته الجاهزة لنظرية التصميم الذكي مثلا، والتي يسوقها لينفي دلالتها على وجود الخالق فيقول كما نسمع ونقرأ مِنهم كثيرًا: نظرية التصميم الذكي ليست عِلمًا لأنها تتعامل مع كيانات لا يمكن ملاحظتها أو تجريبها!
ولذلك فلا عجب مِن المقال العلمي النقدي اللاذع الذي وجهه عالم الكونيات الشهير[6] (جورج إليز George Ellis) للسخرية مِن فرضية الأكوان المتعددة التي لا يمكن إثباتها، والتي وصل عددها حسب ما قاله الملحد (ستيفن هوكينج Stephen Hawking) وهو شريكه السابق في الكتابة العلمية الكونية إلى 10 أس 500 احتمال![7] وذلك في محاولة إلحادية بئيسة للهروب مِن تفسير الإحكام المُتقن لقوانين الكون (Fine-tuning of universe) التي ألجمتهم وهم يحاولون نفي دلالتها على القصد والغاية الحكيمة للخالق!
فإذا فهمنا هذا التناقض الصارخ لرأينا العِلم وهو يميل في كفة الإيمان عن الإلحاد بالكلية، إذ امتاز الإيمان أولا بصدق فرضياته المتناسقة مع روح العلم وانتظامه، وثانيًا مع معقولية استدلالاته على وجود الغيب مِن آثاره المادية في الطبيعة والكون المرصود.
7- بين "إله الثغرات المعرفية"، والسببية والاحتمالية!
لا شك أن مفهوم "إله الثغرات المعرفية" الديني قد سقط الآن بما أوضحناه مِن النقاط السابقة، بل والغريب أنه قد حل محله إله ثغرات معرفي آخر ولكنه إلحادي هذه المرة، حيث نرى الملحد يُسارع عند كل جهالة تسد طريقه العلمي الطبيعي إلى إضافة تفسيرات غيبية ميتافيزيقية مِن عنده ليخلع عليها لبسة الإلحاد، بعيدًا عن التفسير الديني الذي يكون دومًا أقرب للعقل والعِلم الحقيقي، يُذكرنا ذلك بقائمة عالم التطور الدارويني الألماني (روبرت ويزرشيم Robert Wiedersheim) التي وضعها في كتاب (The Structure of Man: An Index to His Past History)عام 1893م، وساق فيها 86 عضوًا مجهول الوظيفة في وقته على أنها دليل على الأعضاء الأثرية المزعومة [8] (Vestigial organs) والتي يستميت الملحدون والتطوريون لإثبات وجودها كدليل على بقايا تطور الكائنات بعضها مِن بعض وصولا للإنسان! فذكر مِنها الزائدة الدودية وكذلك الغدد الصماء التي كانت مجهولة الوظيفة قبل اكتشاف الهرمونات وغيرهم الكثير، وهو ما يترجم لنا كيف تؤثر الأفكار المُسبقة على تفكير المُلحد في وضع تفسيرات إلحادية لكل مجهول عِلمي.
ففي هذا المثال السابق - ومِثل زعمهم أيضَا أزلية الكون التي أسقطها العِلم وكذلك الجينات الخردة وغيرها- يمكننا أن نستخدم نفس تعبيرات الملاحدة التي يستخدمونها ضد الأديان لكشف إله الثغرات المعرفية الخاصة بهم، ولعل أشهرها هو قولهم: "كلما تقدم العِلم خطوة.. انحسر وتضاءل دور الإله وتراجع"!
ويشيرون بها إلى أنه كانت هناك تفسيرات دينية لظواهر طبيعية مجهولة السبب في وقتها، فكان المؤمنون يكتفون بنسبتها ساعتها إلى الإله، وأما بمجرد كشف أسباب الظاهرة، فيتراجع دور الإله عند المؤمنين، أقول:
إن إيمان المؤمنين بأن الإله هو السبب الرئيس مِن وراء أية ظاهرة هو إيمان صحيح، فسواء عرفوا سبب الشيء -مِثل سبب نزول المطر مثلا- أو لا فهذا لن يمنعهم في كِلتا الحالتين مِن أن يرجعوا بسبب النزول الأول إلى الخالق، إما على سبيل تحكمه الاختياري في احتمالات العِلة الفاعلة، وإما على سبيل عِلته الغائية كمُريد ومُسبب أول في وقوع المطر كما شرحنا مِن قبل، تمامًا كما لو تخيلنا الشاب (س) وهو عاجز أمام قطعة صغيرة مِن المُحرك لا يعرف ما الذي يتحكم في حركتها بالضبط، فهنا يمكنه القول أن المُصمم أو الصانع أو المُريد أو المُسبب الأول هو الذي يُحركها، ويكون بذلك غير كاذب ولم يلجأ إلى مُداراة جهله وإنما اعترف به، لأنه سواء اكتشف هذه القطعة الأخرى فيما بعد أم لا فستبقى عبارته الأولى صحيحة وهي أن المُصمم أو صانع المُحرك أو المُريد أو المُسبب الأول هو الذي يجعل كل قطعة فيه تتحرك.
نجد الله تعالى يؤكد هذه العلاقة في قوله في إحدى آيات القرآن مثلا:
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28].
فهذه عِلة غائية وهي إرادته في نشر رحمته بماء المطر ليُغيث به الناس، وأما إذا نظرنا إلى نفس الحدث -وهو نزول المطر أو الغيث– مِن وجهة نظر العِلة الفاعلة فنراه يقول وبوضوح لا لبس فيه:
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 57].
وهنا -وبعد سقوط هذا الخلاف الآخر المزعوم بين العِلم والدين- دعونا نتماشى مع خيال العلماء الملحدين في غاية ما يتمنوه مِن تحكم في مجريات أمور الطبيعة، ولنأخذ مثلا ظاهرة نزول المطر وما يتعلق بها مِن تفاعلات الرياح وجسيمات ذرات الهواء والكهرباء.. إلخ، وحتى تكون أقرب للمقارنة مِع الآيات المذكورة أعلاه فنقول:
يتخيل الملحد أنه إذا استطاع التحكم في كذا ثم كذا ثم كذا وصولا لأصغر مكونات المادة والذرة، فإنه سيكون بإمكانه أخيرًا التحكم في كل شيء في الطبيعة مِن حوله! ورغم أن هذه الخيالات هي مِن المُحال.
إلا أننا نريد أن نصدم الملحد بحقيقة لا يقف عليها إلا المُختصون لينظروا إليه بعدها بشفقة وهي:
أن أصغر مكونات للمادة والذرة -وهي جسيمات عالم فيزياء الكم- لا تتبع الحتمية أبدًا في سلوكياتها وتصرفاتها وإنما تتبع الاحتمالات! وبذلك ينتحر حِلم الملحد بين يدي الخالق عز وجل في كل لحظة اختيار يحكم بها الله وفي كل احتمال يشاؤه ويُريده سبحانه، وهو ما بينه لنا عالم الفيزياءوالرياضيات الألماني الأشهر (ماكس بورن Max Born) الحائز على جائزة نوبل 1945م بسبب أبحاثه في فيزياء الكم، حيث وضح في أثناء تفريقه بين (السببية والحتمية Causality and Determinism) كيف أنه في عالم فيزياء الكم لا تنتفي السببية، ولكن التي تنتفي هي الحتمية لتحل محلها الاحتمالات، وأن ذلك لا يتعارض مع ما جاءت به الأديان![9].
وفي ختام هذه النقطة نقول أن مثل هذا التفكير هو الذي أفرز لنا لادينية مثل لادينية "آينشتاين" في تقديسه للقوانين التي تسوق الكون واكتفائه بها عن الإيمان بإله مُعين أو مُشخص، حيث شابهت الحتمية التي ظنها آينشتاين تحكم العالم مع ما يتخيله الملاحدة في قدرتهم على التحكم يومًا ما في أسباب كل شيء، ولذلك اشتهرت على لسانه دومًا عبارة كررها في أكثر مِن محفل ولقاء وهي: "إن الإله لا يلعب النرد مع العالم أو الكون"!
God doesn't play dice with the world...[10]
Quantum mechanics is certainly imposing. But an inner voice tells me that it is not yet the real thing. The theory says a lot, but does not really bring us any closer to the secret of the "old one." I, at any rate, am convinced that He does not throw dice [11].
ولكن كل هذه الرؤية المغرورة تهدمت بمئات الاحتمالات الرياضية المتنوعة التي يمكن الخروج بها لسيناريوهات المحطات الكبرى في الكون -مثل نشأته ونهايته.. إلخ- فما بالنا بالأصغر مِنها مثل نزول المطر أو زلزال ما هنا أو هناك؟! فسبحان الذي جعل الإنسان البسيط بفطرته وقبل آلاف السنين يلمس هذه الاحتمالية في كل ما هو أبسط مِن ذلك، ودون الحاجة لاكتشاف عالم الكم وما دون الذرة! ويعلم أن المُتحكم الحقيقي فيها هو واحد فقط، هو خالقها عز وجل.
8- هل هناك ما يمنع علماء الطبيعة والعِلم التجريبي مِن الإيمان بالله؟
حيث يجدر بنا في نهاية هذه الدراسة المختصرة والمتواضعة أن نسأل سؤالا وجيهًا واقعيًا بعيدًا عن تهويلات الملاحدة وتشويهاتهم المتعمدة لوجه العِلم -للأسف- وهو:
على مدار التاريخ، ولاسيما مع عصر النهضة العلمي الحديث على يد المسلمين، هل هناك ما يمنع علماء الطبيعة والعِلم التجريبي فِعلا مِن الإيمان بالله أو بإله خالق لم يروه؟
والإجابة يُمكن استخراجها بكل سهولة مِن النقاط السابقة، حيث رأينا أنه لا تعارض أبدًا بين العِلم الطبيعي التجريبي الذي يبحث في الموجودات، وبين استدلال العقلاء والعلماء واستخراجهم مِنه ما يدلهم على الخالق والصانع الحكيم العليم الخبير المُريد سبحانه، تلك الصفات المُمكن استنباطها مِن غير الحاجة حتى إلى وحي –لأن هناك صفات لا نعرفها إلا بوحي مِن الخالق ذاته ورسله-.
ولذلك نرى الإسلام خصوصًا -وفي كتابه المحفوظ القرآن- لم يُعلي شأنا بعد إخلاص الإيمان بالله مثل ما أعلى مِن شأن العِلم والعلماء، بل ووصفهم بأنهم أحق الناس بخشية الله إذ يعرفون مِن صفاته ومِن عظمته ما لا يعرفه غيرهم فيقول: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28].
وبالفعل.. ها هم واضعو أسس المنهج التجريبي نفسه -المسلمين- وعلى رأسهم (جابر بن حيان Jabir Ibn Hayyan) و(الخوارزمي Al-Khwarizmi-AlGorismi) و(الرازي Al-Razi-Rhazes) و(ابن الهيثم Ibn Al-Haytham-AlHacen) و(ابن النفيس Ibn Al-Nafis) و(الكِندي Al-Kindi–Kindus) و(عباس بن فرناس Abbas Ibn Firnas-Armen Firman) قد أبهروا العالم في شتى العلوم الطبيعية، ولم يروا أبدًا أي تعارض أو أي عائق بين البحث في الكون والموجودات وبين الإيمان بخالق يدل عليه كل شيء مِن مخلوقاته، حيث برعوا مثلا في شتى علوم الكيمياء والطب والجراحة والتخدير والتشريح وعلوم النبات والحيوان وعلوم الفلك والتشفير والتسيير الذاتي والميكانيكي.. وغير ذلك الكثير الذي يصعب حصره[12]، وإنما يُمكن التعرف على بعض ملامحه مِن موقع ألف اختراع واختراع.
والذي كان في الأصل معرضًا في مدينة مانشيستر في بريطانيا للتعريف بأفضال المسلمين واختراعاتهم التي غيرت وجه العالم إلى اليوم، ثم انتقل بعدها إلى الكثير مِن مدن العالم.
ولعل ذلك ما أورث (روجر بيكون) تعزيز إيمانه بالله رغم أنه يُعد في عين الغرب -زورًا وبهتانا- واضع أسس المنهج التجريبي [13] [14]، في حين أنه لم يكن في الحقيقة إلا ناقلا له مِن علماء المسلمين [15] [16] [17] الذين احتك بهم وتعلم مِنهم كيف يقف العالِم المؤمن بالله في معمله ليُسجل ملاحظاته ويُجهز تجاربه ويختبر صحة فرضياته بعيدًا عن الدوجمائيات والآراء الوهمية المُسبقة بلا دليل، ولعله مِن أشهر الكُتاب الذين وضحوا هذه الحقائق هو الباحث (روبرت بريفولت Robert Briffault) في كتابه الشهير (صناعة الإنسانية Making of Humanity) فيقول:
"إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعِلم العربي في مدرسة أكسفورد على يد خلفاء معلمي العرب المسلمين في أسبانيا، وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده الحق في أن يُنسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولا مِن رسل العلم والمنهج الإسلامي التجريبي إلى أوروبا المسيحية.." إلى آخر ما قاله في إثبات أولية المسلمين وتفوقهم وإبداعهم في المنهج التجريبي.
It was under their successors at Oxford School (that is, successors to the Muslims of Spain) that Roger Bacon learned Arabic and Arabic Sciences. Neither Roger Bacon nor later namesake has any title to be credited with having introduced the experimental method. Roger Bacon was no more than one of apostles of Muslim Science and Method to Christian Europe [18]
وهكذا لم يكن مشاهير العلماء الذين غيروا وجه العِلم الحديث مثل (بيكون Bacon) و(غاليليو Galilo) و(كبلر Kepler) و(نيوتن Newton) و(ماكسويل Maxwell) لم يكونوا أبدًا مِن أهل فكر الإلحاد ولا إنكار الخالق عز وجل لحظة مِن الزمان، بل وبالعودة إلى النقولات الرائعة لعالِم الفيزياء الأشهر (ماكس بلانك Max Planck) مِن كتابه "أين يذهب العِلم" "Where is Science Going" والتي يوضح فيها الكثير مِن الحقائق بين العِلم والإيمان نجده يُقرر قائلا:
"لا يُمكن أن يُوجد أبدًا أي تعارض بين الدين والعِلم، بل كل مِنهم مُكملٌ للآخر، وأعتقد أن أي شخص جاد وصادق يُدرك ذلك، وذلك لأن العنصر الإيماني في طبيعته سيظهر حتمًا إذا تكاتفت كل قوى نفسه وتكاملت معًا بكل اتزان وتناسق، وفي الحقيقة لا يُعد مِن الصدفة أن أعظم المفكرين في كل العصور كانوا نفوسًا ذات إيمان كبير"[19].
فإذا تركنا الإحصائيات المُضللة التي يُظهرها الملاحدة عن نسبة العلماء الملحدين في جمعية كذا أو معهد كذا.. إلخ، وهي الإحصائيات التي تتسم غالبًا بعدم الموضوعية لخضوع معظم هذه الجمعيات والمعاهد ومَن فيها مِن العلماء لاعتبارات رسمية تتعلق بتمويل الأبحاث والدعم المادي، نجد أن أكثر الفائزين بجائزة نوبل مثلا هم مِن أصحاب الأديان سواء مِن العلوم الطبيعية أو غيرها كالأدب ونحوه! وهو ما نطالعه مِن الصفحة 57 مِن كتاب "مائة عام مِن جوائز نوبل100 years of Nobel prizes -" حيث نقرأ في الفصل الذي عنوانه "ديانة الفائزين بجائزة نوبل Religion of Nobel prize winners" أن أكثر الفائزين هم مِن أصحاب الأديان، وأكثرهم النصرانية التي تحتل وحدها 65.4%، ثم يقبع في النهاية بنسبة 15% كل اللادينيين -وصف عام يشمل الملحد Atheists واللاأدري Agnostics والمُفكر الحر[20] free thinkers-.
بل وإذا تركنا علماء كبارًا كتبوا وأجادوا في بيان علاقة العِلم بالإيمان، مِثل الكتاب الأكثر مِن رائع لجون لينوكس John C. Lennox هل دفن العلم الله[21] Has Science Buried God، نرى أن هناك مِن العلماء الملاحدة مَن انزاحت عن أعينهم الغشاوة ليفيقوا على حقيقة الخداع العقلي الذي كانوا فيه حيث بدلا مِن أن يكون وجود الخالق هو بديهة البديهيات التي يؤكدها العِلم والعقل والوجدان معًا، كانوا يطلبون عليها هي نفسها الدليل –تخيلوا مثلا لو يطلب الشاب (س) دليلا على أنه هناك صانع لهذا المُحرك المُحكم الغائي الدقيق!-.
فمِنهم مَن أفاق في منتصف العمر مِثل (فرانسيس كولينز Francis Collins) على حقائق الأخلاق وقصور المادة عن شرح الوجود، بل على الحقائق المُبهرة في تخصصه الكيميائي الحيوي والجيني بخصوص التعقيد المُذهل والمُعجز للحمض النووي والخلية -حيث يُعد كولينز رائد مشروع الجينوم البشري- فلم يملك إلا أن كتب كتابًا رائعًا لإثبات وجود الخالق وهو كتاب (لغة الله: عالِم يُقدم دليل على الإيمان[22] Language of God: A Scientist Presents Evidence for Belief).
ومِنهم مَن تدارك نفسه في نهايات عمره مِثل السير البريطاني الفيلسوف الملحد (أنتوني فلو Antony Flew)، والذي بعد أن قضى أكثر مِن نصف قرن كامل ينشر الإلحاد في كتبه التي بلغت الثلاثين كتابًا، رأى أن يكون صادقا مع نفسه أخيرًا ويعترف بالإعجاز العجيب في الأرقام العلمية المُذهلة في دقة خلق الكون وأن له بداية وليس أزليًا، وكذلك حقائق الحمض النووي الوراثي التي يستحيل أن تكون إلا بمُدبر حكيم عليم قدير، ففاجأ العالم في عام 2003م وقبل موته بسبع سنوات فقط عن عمر 87 عامًا بخبر تحوله مِن الإلحاد إلى الربوبية! وكتب كتابًا رائعًا هو الآخر باسم (هناك إله: كيف غير أشرس ملاحدة العالم أفكاره؟! [23] There is a God: How The World's Most Notorious Atheist Changed His Mind).
فأمثال هؤلاء العلماء في كل زمان ومكان هم البشر الذين صدقوا مع أنفسهم، واتبعوا ما وصلهم مِن رسالات الله تعالى، سواء كانت الإسلام الخاتم أو غيره، فآمنوا به واستجابوا لنداء ربهم عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].
[1] ماكس بلانك، هو مِن أشهر علماء الفيزياء النظرية الألمان وأحد أهم العلماء في القرن العشرين، ويعتبر مؤسس نظرية الكم، وقد حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1918م.
[2] Max Planck. (1932). Where is Science Going? New York, NY: W. W. Norton & Company, Inc.
[3] جوزيف هوتن تايلور، عالم فيزياء وفلكي أمريكي معروف، فائز بجائزة نوبل في الفيزياء عام 1993م لاكتشافه أول نجم نابض ثنائي.
[4] Taylor, as cited in Brown 2002
[5] مبدأ عدم التأكد أو مبدأ الريبة أو مبدأ اللايقين أو مبدأ الشك، واحد مِن أهم المبادئ في نظرية الكم، تمت صياغته بواسطة عالم الفيزياء الألماني هايزنبرج عام 1927م وينص على أنه لا يمكن تحديد خاصيتين مُقاستين مِن خواص جملة كمومية إلا ضمن حدود معينة مِن الدقة، أي أن تحديد أحد الخاصيتين بدقة كبيرة (أو ذات عدم تأكد ضئيل) يستتبع عدم تأكد كبير في قياس الخاصية الأخرى، ويُعد تحديد موضع وسرعة جسم أولي هي مِن أكثر الحالات الشائعة لتطبيق هذا المبدأ، ويعني ذلك عِلميًا أن الإنسان ليس قادرًا على معرفة كل شيء بدقة 100%، ولا يمكنه قياس كل شيء بدقة 100%، حيث يوجد دومًا قدر لا يعرفه ولا يستطيع قياسه.
[6] Ellis, George F. R. (August 1, 2011). "Does the Multiverse Really Exist?". Scientific American (New York: (Nature Publishing Group) 305 (2): 38–43
[7] Stephen W. Hawking, Leonard Mlodinow. (2010). The Theory of Everything. In; The Grand Design (pp. 188-189) New York, NY: The Random House Publishing Group.
[8] Wiedersheim, R. (1893) The Structure of Man: An Index to His Past History. Second Edition Translated by H. and M. Bernard. London: Macmillan and Co. 1895.
[9] ماكس بورن: هو أحد أهم مؤسسي نظرية الكم الحديثة مع غيره مِن العلماء مثل (نيلز بور) و(هايزينبيرج) وهو صاحب تفسير دالة الموجة ومؤسس ميكانيكا المصفوفات، والجزء المُتعلق بتفريقه بين السببية والحتمية في عالم الكم هو مِن الفصل الثاني مِن كتابه الشهير: NATURAL PHILOSOPHY OF CAUSE AND CHANCE
[10] William Hermanns. (1983).Einstein and the Poet: In Search of the Cosmic Man Paperback (pp. 58) Brookline Village, MA: Branden Press
[11] Letter to Max Born (4 December 1926); The Born-Einstein Letters (translated by Irene Born) (Walker and Company, New York, 1971) ISBN 0-8027-0326-7
[12] يمكن الاستزادة بالكثير مِن هذه التفاصيل بمشاهدة فيلم القناة الثانية الألمانية RTL الوثائقي الرائع (علوم الإسلام الدفينة).
[13] James S. Ackerman (1978). "Leonardo's Eye" 41. Journal of the Warburg and Courtauld Institutes. p. 119
[14] John Maxson Stillman (2003) [1924]. Story of Alchemy and Early Chemistry. Kessinger Publishing. p. 271. ISBN 978-0-7661-3230-6
[15] Mark Smith (1996). Ptolemy's theory of visual perception: an English translation of the Optics. American Philosophical Society. p. 58. ISBN 978-0-87169-862-9
[16] Nader El-Bizri, "A Philosophical Perspective on Alhazen's Optics", Arabic Sciences and Philosophy, Vol. 15, Issue 2 (2005), pp. 189-218 (Cambridge University Press)
[17] Hub Zwart (2008). Understanding Nature: Case Studies in Comparative Epistemology. Springer. p. 236. ISBN 978-1-4020-6491-3
[18] Robert Briffault. (1919). Making of Humanity. (pp. 200) London: George Allen & Unwin Ltd
[19] Planck, Max Karl Ernst Ludwig. (1932). Where is Science Going? (pp. 168). New York, NY: W. W. Norton & Company, Inc
[20] Baruch A. Shalev, 100 Years of Nobel Prizes (2003), Atlantic Publishers & Distributors, pp.57: between 1901 and 2000 reveals that 654 Laureates belong to 28 different religion Most 65.4% have identified Christianity in its various forms as their religious preference.
[21] God's Undertaker: Has Science Buried God?, John C. Lennox, Lion UK, Updated edition (September 1, 2009)| 224 p | ISBN 0-7459-5371-9
[22] Collins, Francis (4 September 2008). The Language of God: A Scientist Presents Evidence for Belief. Simon and Schuster. ISBN 9781847396150.
[23] Flew, Antony (2007), There is a God: How the World's Most Notorious Atheist Changed His Mind, New York: Harper One.