* ملحوظة: هذه السلسلة هي من كتاب (خونة الحقيقة: الغش والخداع في قاعات العلم) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.
"لقد علمنا كل هذه الحقائق حول العالم الطبيعي من خلال العلم التجريبي، منتصرين على الظلام والجهل؛ بغية تصنيف النجوم وتقدير أحجامها وتركيبتها ومسافاتها وسرعتها؛ وبغية تصنيف الأجناس الحية والكشف عن علاقاتها الجينية... هذه الإنجازات العظيمة للعلم التجريبي حققها رجال... ليس بينهم سوى أشياء مشتركة قليلة: لقد كانوا صادقين ورصدوا بالفعل تلك الملاحظات التي سجلوها، وقاموا بنشر نتائج أعمالهم بشكل يسمح للآخرين بإعادة إنتاج التجربة أو الملاحظات".
هكذا تنص سلسلة بيركلي لدروس الفيزياء، وهو نص مؤثر استُخدم في جميع أنحاء الولايات المتحدة لإثارة إعجاب الطلبة بمضمون وتقليد الفيزياء الحديثة.(1) ومع ذلك، وكما هو الحال مع أنظمة الاعتقاد غير العلمية، فإنَّ العناصر التي يقع التأكيد عليها بقوة هي في معظم الأحيان الأقل موثوقية واقعيا. إذ لم يكن كل العلماء السابقون العظماء صادقين جدا ولم يتحصَّلوا دائما على نتائج التجارب التي نقلوها.
- كلوديوس بطليموس، المعروف بكونه "أعظم عالم فلك في العصور القديمة"، لم يقم بالمراقبة في أغلب سنين حياته في الليل من على الساحل المصري، وإنما في النهار من المكتبة الكبيرة في الإسكندرية، حيث استحوذ على أعمال عالم فلك يوناني وسمَّاها باسمه.
- جاليليو جاليلي، الذي كثيرا ما أُشيد به باعتباره مؤسس الطريقة العلمية الحديثة بسبب إصراره على أنَّ التجربة، وليس أعمال أرسطو، هي التي ينبغي أن تكون الـحَكَم على الحقيقة. بيد أنَّ زملاء الفيزيائي الإيطالي خلال القرن السابع عشر قد واجهوا صعوبة في إعادة إنتاج نتائجه مشكِّكين في إجرائه تجارب معينة.
- إسحاق نيوتن، الفتى العبقري الذي صاغ قوانين الجاذبية، اعتمد في عمله الرائع على عامل حذر غير لائق لكي يجعل القدرة التنبُّؤية لعمله تبدو أكبر بكثير مما كانت عليه.
- جون دالتون، الكيمائي العظيم في القرن التاسع عشر والذي اكتشف قوانين التركيبة الكيميائية وأثبت وجود أنواع مختلفة من الذرات، قام بنشر نتائج أنيقة لم يتمكن أي كيميائي في الوقت الحاضر من تكرارها.
- جريجور مندل، الراهب النمساوي الذي أسس علم الوراثة، قام بنشر أوراق بحثية حول عمله على البازلاء تحوي إحصائيات أجود من أن تكون صحيحة.
- الفيزيائي الأمريكي روبرت ميليكان فاز بجائزة نوبل لقياسه الشحنة الكهربائية للإلكترون. إلَّا أنَّ ميليكان حرَّف عمله بشكل كبير ليجعل نتائجه التجريبية تبدو أكثر إقناعا مما كانت عليه في الواقع.
يقوم العلم التجريبي على مفارقة، وهو يهدف إلى جعل الواقع الذي يمكن التحقق منه بشكل موضوعي معيارا للحقيقة. ولكن ليست الوقائع المملة هي التي تمنح العلم لذته الفكرية وإنما الأفكار والنظريات التي تضفي معنى على الوقائع. وبالتالي، ثمة عنصر خطابي تشتمل عليه حجة الكتب الدراسية حينما تناشد سيادة الواقع. إذ أنَّ تقصي الحقائق في الواقع ليس مثمرا مثل تطوير نظرية أو قانون يفسر الحقائق، وهنا يكمن الإغراء. فقد يُستدرج العالِم أحيانا، خلال تفسيره لمادة الطبيعة الجامحة ومحاولته الوصول إلى هناك أولا، إلى تناول الحقائق بشكل سريع وفضفاض كي يجعل النظرية تبدو أكثر إقناعا مما هي عليه حقا.
يصعب على غير العالِم أن يقدِّر الأهمية البالغة للسبق إلى الاكتشاف بالنسبة للباحث. فلا يؤول المديح في العلم إلا إلى الأصالة، بأن تكون أول من اكتشف شيء ما. مع استثناءات نادرة، ليس ثمة مكافآت لكونك الثاني. إنَّ الاكتشاف دون السَّبْقٍ هو بمثابة ثمرة مرَّة الطعم. في صراع المزاعم المتخاصمة والنظريات المتنافسة، غالبا ما يتخذ العالِم تدابير فعَّالة ليضمن أنَّ أفكاره قد لوحظت، وأن قد تم التعرُّف على اكتشاف جديد باسمه.
تُعد الرغبة في نيل المديح وكسب احترام الأقران دافعا قويا لكل العلماء تقريبا. فمنذ الأيام الأولى للعلم، رافق التعطشَ إلى نيل الاعتراف إغراءٌ بــ"تحسين" الحقيقة قليلا، أو حتى باختراع بيانات بأكملها، وذلك كي تسود النظرية.
كان كلوديوس بطليموس، الذي عاش خلال القرن الثاني بعد الميلاد في مدينة الإسكندرية بمصر، واحدا من العلماء الأكثر تأثيرا في التاريخ. أدت توليفته للأفكار الفلكية المبكرة إلى إيجاد نظام للتنبؤ بمواقع الكواكب. كان الافتراض المركزي للنظام البطلمي: أن الأرض ثابتة وأن الشمس والكواكب الأخرى تدور حولها في مدارات دائرية بشكل أساسي.
شكَّلت أفكار بطليموس تصور البشر عن بنية الكون لما يقرب من 1500 سنة، أطول بكثير من الفترة التي سادت فيها أفكار نيوتن أو آينشتاين. لقد ساد النظام البطلمي بلا منازعة خلال عصور الظلام، انطلاقا من السنوات الأولى للإمبراطورية الرومانية وحتى أواخر عصر النهضة. أطلق الفلاسفة العرب، الذين كانوا هم الأوصياء على العلم اليوناني خلال العصور الوسطى، على كتابات بطليموس اسم المجسطي، والتي تعني باليونانية "العظيم". لقد اعتبر الفلكي الأبرز في العالم القديم. لم يبدأ حكم بطليموس الممتد على 1500 سنة بكونه ملك الفلكيين في الانهيار إلا حينما وضع كوبرنيكوس في عام 1543 الشمس في مركز نظام الكواكب عوضا عن الأرض. بيد أنَّ لعملاق السماء هذا أقداما من طين.
في القرن التاسع عشر، عندما أعاد علماء الفلك النظر في بيانات بطليموس الأصلية بدأوا في ملاحظة بعض الملاح الغريبة. حيث أظهرت الحسابات الخلفية من موقع الكواكب الحالي خطأ الكثير من ملاحظات بطليموس. كانت الأخطـاء جسيمة حتى بمعايير علم الفلك القديم. يعتقد دينيس رولينز Dennis Rawlins، عالم الفلك في جامعة كاليفورنيا بسان دييجو، انطلاقا من الدليل الداخلي أنَّ بطليموس لم يقم بتلك الملاحظات بنفسه كما زعم، وإنما نقلها بالكلية من عملِ فلكي سابق، هيبارخوس من رودس، الذي جمع واحدا من أفضل كتالوجات النجوم في العالم القديم.
تقع جزيرة رودس، حيث قام هيبارخوس بملاحظاته، على مستوى خمس درجات شمال الإسكندرية. وبطبيعة الحال هناك شريط متكون من خمس درجات من النجوم الجنوبية والتي يمكن مشاهدتها من الإسكندرية وليس من رودس. ولا واحد من 1025 نجما المدرجة في كتالوج بطليموس تأتي من الشريط المتكون من خمس درجات. أيضا، جميع الأمثلة المقدمة في المجسطي حول كيفية حل المشاكل المتعلقة بعلم الفلك الكروي هي أمثلة مقدمة وفق خطوط الطول ذاتها الموجودة في رودس. يقول رولينز في تعليق ساخر: "لو لم يكن المرء أكثر اطلاعا، لأمكنه أن يشك (كما فعل ثيون الإسكندري أكثر المعجبين ببطليموس ثباتا وعزما في القرن الرابع) أنَّ بطليموس قد أخذ أمثلته من هيبارخوس".(2)
ليست الأسئلة المتعلقة بالسرقة فحسب هي التي تحوم حول أعظم فلكي في العصور القديمة. فإنَّ بطليموس متهم أيضا بجريمة علمية أكثر حداثة ألا وهي أنه قد استمد البيانات التي استشهد بها لدعم نظريته من النظرية نفسها بدلا من الطبيعة. كان أهم من اتهمه بذلك روبرت نيوتن Robert Newton، وهو عضو في مختبر الفيزياء التطبيقية في جامعة جونز هوبكنز. حيث جمع بدأب في كتابه (جريـمة كلوديوس بطليموس The Crime of Claudius Ptolemy) عشرات الحالات حيث كانت النتائج التي نقلها بطليموس متطابقة تقريبا مع ما كان يريد الحكيم السكندري إثباته ومختلفة بشكل كبير عما كان يجدر به أن يلاحظه.(3) المثال الصارخ على ذلك أنَّ بطليموس قد ادعى أنه لاحظ اعتدالا خريفيا على الساعة الثانية صباحا يوم 25 سبتمبر 136م، مشددا على قياسه الظاهرة "بقدر كبير من الحيطة". ولكن على حد قول نيوتن، فقد أظهر الحساب الخلفي حسب الجداول الحديثة أنَّه كان ينبغي للمراقب من الإسكندرية أن يرى الاعتدال على الساعة 9:54 صباحا يوم 24 سبتمبر، أي قبل يوم وزيادة.
كان بطليموس يحاول، من خلال تحديده لتاريخ الاعتدال، أن يظهر دقة قياس طول السنة كما حدده هيبارخوس. قام هيبارخوس كذلك بقياس اعتدال خريفي قبل 278 سنة، في 27 سبتمبر 146 ق.م، بيّن نيوتن أنَّه لو وقع إضافة تقدير هيبارخوس 278 مرة (والذي يعتبر متميزا ولكنه ليس صائبا تماما) إلى اعتدال هيبارخوس، فإنَّ الوقت الذي يوصل إليه يكون في غضون دقائق من الوقت الذي نقله بطليموس. بعبارة أخرى، لا بد أنَّ بطيموس قد عمل بشكل عكسي انطلاقا من النتيجة التي كان يحاول إثباتها عوض أن يجري ملاحظات مستقلة.
يدعي المدافعون عن بطليموس، مثل المؤرخ أوين جنجريتش Owen Gingerich، أنَّ العلماء المعاصرين ليسوا عادلين إذ يطبقون المعايير المعاصرة للإجراءات العلمية على بطليموس. ولكن حتى جنجريتش، الذي يدعو بطليموس "أعظم عالم فلك في العصور القديمة" يعترف بأن المجسطي يحتوي على "بعض الأرقام المريبة بشكل ملحوظ".(4) لكنه يصر على أنَّ بطليموس اختار فقط نشر البيانات التي دعمت نظرياته بشكل أفضل وأنه بريء من أي نية لممارسة الخداع. مهما تكن نية بطليموس، فإن اقتراضه من عمل هيبارخوس قد ضمن له ما يقارب الألفي سنة من المجد قبل أن يُكتشف أمره.
الميزة التي من المفترض أن تميز العلم عن غيره من أنواع المعرفة هي اعتماده على الأدلة التجريبية، أي على اختبار الأفكار في مقابل الحقائق في الطبيعة. إلا أنَّ بطليموس ليس الوحيد الذي تجاهل واجبات المراقب، فحتى غاليليو مؤسس المنهج التجريبي الحديث، يشتبه في نقله تجارب لم يكن من الممكن القيام بها وفق النتائج التي ادعاها.
1. C. Kittel, W. D. Knight, M. A. Ruderman, The Berkeley Physics Course, Vol. 1, Mechanics (McGraw-Hill, New York, 1965). This passage, together with an interesting analysis of the scientific textbook writers' use of history, is quoted in an article by Stephen G. Brush, "Should the History of Science Be Rated X?" Science, 183, 1164-1172, 1974.
2. Dennis Rawlins, "The Unexpurgated Almajest: The Secret Life of the Greatest Astronomer of Antiquity," Journal for the History of Astronomy, in press.
3. Robert R. Newton, The Crime of Claudius Ptolemy (Johns Hopkins University Press, Baltimore, 1977). For a summary of the argument see Nicholas Wade, "Scandal in the Heavens: Renowned Astronomer Accused of Fraud," Science, 198, 707-709, 1977.
4. Owen Gingerich, "On Ptolemy As the Greatest Astronomer of Antiquity," Science, 193, 476-477, 1976, and "Was Ptolemy a Fraud?" preprint No. 751, Center for Astrophysics, Harvard College Observatory, Cambridge, 1977. See also a news article summarizing an attempt to absolve Ptolemy, Scientific American, 3, 90-93, 1979.