هل الإلحاد سهل؟ ما المطلوب من الملحد كي أصدقه حين ينفي وجود الإله؟
هل هناك مؤهلات –أو قل تنازلات– نفسية ليصبح الشخص غير مؤمن بما وراء المادة صدقا؟
ويمكن صياغة السؤال بلسان ملحد ناشئ: ما الذي علي أن أفعله لأكون ملحدا (كامل الإلحاد)؟
لا شك أن الإلحاد الكامل عقليًا ونفسيًا لا يستطيع الإنسان مهما فعل أن يصل إليه، فكما أن كمال الخير نادر جدا في البشر ممثلا في الأنبياء؛ فكمال الشر مثله! وكما أن المؤمن يجاهد الشر في نفسه كي يزداد إيمانه؛ فسيحتاج الملحد أن يجاهد الخير في نفسه كي يزداد إلحاده ومن ثم يواصل نحو كمال الإلحاد.
وهذا المقال يكشف للملحد درجة إلحاده العقلية والنفسية، ويعطي للمؤمن إلزامًا قويًا على الملحد كما سيتبين. أما الدرجة العقلية فستكون من خلال تحليل قول أو تفيكر الملحد بأن الإله ليس موجودا، وأما الدرجة النفسية فستكون من خلال عرض لإيمانيات الملحد.
ولنبدأ بالدرجة العقلية: ما معني القول بأنه لا وجود للإله؟
إن نفي وجود الإله، لا يستطيع الملحد مهما فعل أن يدلل عليه، وأنا هنا أتكلم عن أي نفي، وذلك لأن مفهوم النفي في ذاته ليس ماديًا، حيث لا وجود ماديًا لكلمة (ليس) في قولنا: "زيد (ليس) في البيت". فمن أين للمادة تصور النفي؟ الواقع إثبات فقط، فكيف يستطيع الإنسان إذن تصور النفي؟
الإجابة الشهيرة هي انتزاع من الإثبات، وهي تسلسل فقط، فسنقول: وأين مفهوم النزع أو التجريد في الواقع؟ العالم به قضية (+ق) فقط، لكن ليس فيه (-ق)، فكيف ابتكرها الانسان؟
الآن يستغيث الملحد بداروين ولن يفيده. وذلك لأن البيئة أو الحاجة لا تطلب مفهوم النفي أصلا. فالنفي غاية في التجريد لأنه عكس الواقع.
ولتقريب الأمر: هل يستطيع المشاهد لفيلمٍ ما تصور السنياريوهات التي مرت في ذهن المخرج والمؤلف وقت تحضير العمل؟!
المادة تحتوي علي أحداث في زمان ما ومكان ما وكلها مثبتة، وعلى ذلك: فكيف سيتصور الإنسان النفي بمعزل عن الزمان والمكان؟
لا مكان هنا للتجربة، وسكوتها عجزها، فماذا ستقول العقلانية؟
سيجد الملحد وجها للهروب في العقلانية التي لا ينصرها، والتي تقول: بأن الإنسان يفرض للقضية الواحدة الإيجاب والسلب كاستعدادات فطرية، وهو لنا لا له، فهذه الغريزة بالذات في منتهي الصعوبة لكي تعطيها البيئة عشوائيا للإنسان أثناء تطوره.
وللتقريب أيضا: هذا الكلام معناه أن الإنسان يولد باستعداد للقبول بجميع السيناريوهات البيئية التي ستواجهه والتي لن تواجهه، فهل للبيئة غاية من ذلك؟!
ثم إن القضيتين: (+ق) و (-ق) تتعلقان بانتزاع اللاموجود من الموجود في زعمهم، وليس الأمر في نفي الإله كذلك، بل انتزاع لاموجود (النفي) من موجود (العالم) لتطبيقه على لا موجود عندهم وهو الإله! فالأمر إذن شديد التجريد. تأمل حيوانا أفكاره منحصرة داخل "الآن" و"هنا"، لا يفكر إلا في الموقف الذي سجن فيه، يتطور إلي درجة نفي الوهم!
الآن أقول: قول الملحد أن الإله غير موجود لا معنى له على مذهبه!
وقس علي ذلك قوله: كان خطأ بشريا بدافع الجهل أن يخلقوا الأديان، فمفهوم الخطأ لا وجود له في المادة أصلا!
وهناك إشكال منطقي على المادية في تعاملها مع التجريد واللغة وهو: من الأسبق؛ النمو العقلي؟ أم التطور اللغوي؟ والإشكال بعبارة أخرى: هل نحن ندرك مفهوم النفي أم لا؟ أم أن اللغة هي التي احتوت كلمات مثل: ليس، غير، لكن وغيرها... من المفاهيم أولا؟
فإن كانت الثانية: فيجب تدخل من خارج العالم يوجه العقل ويعلم الانسان البيان!
وإن كانت الأولي: فهذا قول من لا يعلم شيئا عن التجريد والتسمية الإنسانية. فأقول له: هناك خلط كبير بين تجريد الحيوانات؛ كالدولفين مثلا، وبين الإنسان. فالتجريد الحيواني هو لصق صورة ذهنية كالبطاقة على المتماثلات؛ كتصور النخلة مثلا، فهي توجد في ذهن الحيوان بصورة مختلفة عن التجريد والتسمية الإنسانية الفريدة لها. حيث دلالة النخلة عند الإنسان هي رمز لـ: نبات أرضي + طويل + ثماره البلح وهكذا. وكلا من الدلالات نستطيع قصها واستخدامها بمعزل عن أصلها، بل وحتى مع غيرها كقولنا في وصف شاب طويل: جاء النخلة على حصانه، وهكذا.
والسؤال الآن: ما حاجة العقل البشري لتحويل اللصق لتجريد دلالي؟ إذ لو كمل العقل أولا، فما الحاجة لجعل لغة دلالية؟ ولو كملت اللغة أولا، لكانت من خارج العالم لعقل لا يستوعبها! ولا شك أن القدرات العقلية لا تنتظر تطور اللغة، لأن إهمال القدرة يضعفها إن لم يزلها.
هذه هي مشكلة المادية أو التجريبية الشهيرة، ألا وهي سعة العقل على الحدث، أو تعالي العقل على السيناريو الواحد الذي سيواجهه، والتي ليس لها إلا حلين:
- التنازل عن الإنسانية والتفكير داخل الحدث فقط.
ولنرفع قائمة التنازلات باستعراض الخاصية الإنسانية الفريدة، وهو التعميم الذي يبنى عليها العلم، فالإنسان يجرب مرات قليلة أن النار تحرق ثم يعمم على جميع النيران من آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، فمن أين للملحد الإيمان بدون تجربة باقي النيران؟ لا شك أنه نابع من الإيمان بتجانس الكون أو على الأقل فرض تجانسه. وهي نفس فكرة السيناريوهات المتعددة التي ذكرتها آنفا.
لنختم الآن بالمتطلبات النفسية لتكون ملحدا: للإنسان خاصية فريدة عن باقي الحيوانات وهي إدراك المطلق (extrasensory infinity)، وليس في الرياضيات، فقط بل مطلق الصفات النفسية والعقلية –ليس لهذا علاقة بما قاله القديس أنسلم(1)–. وذلك مثل إدراك معاني الخير والرحمة، والنفي والتناقض. وكل ذلك يحدث لسبب واحد غير مادي، وهو التسخير والتمهيد لعقل الإنسان لكي يدرك الله ومطلق صفاته، فيكون كامل الايمان لو عمل بهما.
إذن الملحد لو تنازل عن مطلقه/إنسانيته، سيتنازل عن عقله وعلمه اللذان يعتمدان علي التعميم والفرض والتجريد. فإما التنازل مطلقا عن الأخلاق وعن العقل الواسع، وإما قبولهما معا. ولا شك أن الوصول لمرتبة كمال الإلحاد يحتاج لأن يطمس الإنسان فطرته، بأن تصل إلى رؤية تقطيع جسد طفل بلا ذنب مساو لإنقاذه من الموت. فلو لم يستطع؛ فليرجع إلى ربه. ولو استطاع؛ فالنار يخلد فيها من لم يكن في قلبه مثقال ذرة من الخير.
(1) وخلاصته: دائما ما يجد الانسان في ذهنه كائنا كاملا من كل وجه، هذا الوجود الذهني لمطلق الصفات الجميلة : الأكمل له أن يكون ذا وجود خارجي واقعي وليس ذهني فقط، وهو برهان ضعيف تنبه له الكثير... منهم الراهب جانيلون الذي قال : ليس كل ما يمكن تصوره له وجود خارجي، فالخطأ ليس له وجود، وهو رد قوي ظاهر، للمزيد راجع فلسفة العصور الوسطي لعبد الرحمن بدوي ص 65 الي 78.