* ملحوظة: هذه السلسلة هي من كتاب (هناك إله: كيف غير أشرس ملاحدة العالم أفكاره؟) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.
دعونا نبدأ بحكاية رمزية. تخيل أن هاتفا يعمل بالأقمار الصناعية جلبته الأمواج على شاطئ جزيرة نائية، وعثرت عليه قبيلة بدائية تسكن هناك، ولم تكن على اتصال بأي حضارة حديثة نهائيًا. شرع العامة من السكان في الضرب على أرقام لوحة الهاتف وسمعوا أصوات متمايزة عند الضرب على متتابعات محددة. افترضوا أولًا أن الجهاز هو من يصدر تلك الأصوات. عكف بعض من أبرع السكان؛ علماء القبيلة، على تركيب وتجميع نسخة طبق الأصل وحاولوا ضرب المفاتيح بنفس التتابع فسمعوا نفس الأصوات مرة أخرى. بدت النتيجة واضحة تمامًا، وهي أن هذا التركيب المتآلف من الزجاج والمعدن والكيميائيات، يصدر ما يشبه صوت الإنسان. وهذا يعني أن تلك الأصوات الإنسانية ما هي إلا خصِّيصة من خصائص ذلك الجهاز.
إلا أن حكيم القبيلة دعا علمائها لاجتماع للمباحثة. لقد فكر مليًا بشأن الأمر، ووصل في النهاية للاستنتاج التالي؛ هذه الأصوات الصادرة عبر هذه الآلة هي حتما أصوات لبشر مثلهم، أناسٌ أحياء ولهم وعي وإدراك، لكن بلسانٍ آخر، ينطقون بلغة أخرى غير لغتهم. فبدلا من افتراض أن الأصوات هي مجرد خصيصة من خصائص الهاتف، ينبغي عليهم تقصي إمكانية أنهم "على اتصال" مع بشر آخرين من خلال نوع من شبكات الاتصال المستترة المعالم. ربما بمزيد من الدراسة في هذا الاتجاه، قد يصلوا لتحقيق فهم أفضل للعالم الذي يتجاوز جزيرتهم. كان رد العلماء على كلام الحكيم الضحك، فقالوا –وبكل بساطة– ساخرين "أنظر! عند إتلاف الآلة، حتما ستتوقف الأصوات عن الصدور، وبالتالي، وبكل وضوح، هي لا شيء أكثر من أصوات صدرت عن تركيب متوالف فريد من صمامات الانبعاث الضوئي الثنائي ولوحات الدارات المطبوعة والليثيوم؛ العنصر الكيميائي المستخدم في البطاريات لتشغيل الآلة".
وبهذه الحكاية الرمزية نرى كم هو من السهل على الأفكار والفرضيات الـمُسْبَقة، تشكيل طريقة نظرتنا للدليل، بدلًا من إتاحة الفرصة للأدلة لكي تشكل هي فرضياتنا وأفكارنا. بمثل هذا، تعرقلت طفرة كوبرينيكس بآلاف أفلاك التدوير البطلمية (تصدى وعارض بشدة مناصري نموذج بطليموس لنموذج مركزية الشمس لكوبرنيكس عن طريق مفهوم أفلاك التدوير للتقليل من أهمية مشاهدات الحركة الكوكبية، المتعارضة مع نموذجهم). وفي هذا، كما يبدو لي، يكمن الخطر النوعي الفارق، الشر المستوطن للإلحاد العقائدي المتحجر فكريًا. وبتطبيق نفس المنطق، عند قولنا "لا ينبغي أن نبحث عن أي توضيح لكيفية وجود العالم: علينا أن نقبل أنه موجود هنا، وهذا كل شيء" أو "بما أننا لا نقبل بفكرة مصدر أسمى للحياة، يفوق تخيل العقل، اخترنا الاعتقاد في المستحيل: استحدثت الحياة بشكل تلقائي من المادة غير الحية عن طريق الصدفة" أو "أن قوانين الطبيعة المادية هي قوانين غير مقننة، نشأت من الفراغ؛ وانتهى النقاش هكذا". تبدو تلك التصريحات للوهلة الأولي وكأنها حجج عقلانية، وكأنها تقف على شيء، وذلك لأنها محاطة بجو لا يظهر عليه علامات اللاعقلانية. بالطبع، لا أشير إلى أنها عقلانية، أو أنها "حجج" حتى.
والآن، لكي نحدد الحجة العقلانية الصحيحة، لا بد أن نسوق الأدلة التي تدعم صحة هذه الحجة. لنفترض مثلًا أننا نشك فيما يطلقه شخص ما من أمثال تلك التصريحات، أو نتشكك بقدر أكبر فيما إذا كان ذلك الشخص يقدم حججًا من الأساس أم لا، والطريقة الوحيدة لفهم تصريحاتهم تلك بمحاولة البحث عن الأدلة، إن وجدت من الأساس، التي يقدمونها لإثبات صحة دعواهم. لأنه لكي نعرف صحة وعقلانية تلك التصريحات، أو لكي نقول إنها حجة فعلية مكتملة، يجب أن تشهد لصالحها أدلة من العلوم والفلسفة. وإن كان هناك شيء ضدها، أو إن كان هناك ما قد يجعل القائل بها يسحب تصريحه ويعترف بالخطأ، فذلك أمر ينبغي أن يوضح. لكن، إن لم يكن هناك دليل أو علة معروضة لدعمها، فبالتالي لا يوجد دليل أو علة للقول بأنها حجة عقلانية.
عندما طلب الحكيم في الحكاية الرمزية من العلماء التحقيق في جميع أبعاد الأدلة، حيث رأى أن الإخفاق في استكشاف ما كان يبدو لأول وهلة معقولًا، سيحول دون إمكانية الفهم الأفضل للعالم المتجاوز للجزيرة التي تسكنها بالقبيلة.
وحاليا، غالبا ما يبدو للأشخاص غير المؤمنين بالإله، وكأنه لا يمكن تصور وجود ثمة دليل واحد قد يعترف به الملحدين ذوي التفكير العلمي كسبب كاف للإقرار بـ"إمكانية وجود إله في النهاية". وبالتالي، أطرح على زملائي السابقين من الملحدين سؤالا بسيطا مركزيا: "ما الذي يجب أن يحدث، أو يجب أن يكون قد حدث ليكون سببًا في إمعان النظر في إمكانية أن يكون هناك عقل أسمى؟".
كشف أوراق اللعبة
وبالانتقال من الحكاية الرمزية، حان الوقت الآن لطرحي أوراقي على طاولة المباحثات، لبيان آرائي العقائدية والأدلة الداعمة لها. الآن أنا أؤمن بأن الكون قد ظهر إلى الوجود عن طريق الذكاء اللامحدود. أؤمن بأن قوانين الكون المتشابكة المعقدة صعبة التحليل، تعكس ما أسماه العلماء عقل الإله. كما أؤمن أن نشأة الحياة وتنوعها أساسهما مصدر إلهي.
لماذا أؤمن بذلك، في ضوء حقيقة أني قدمت عرضًا مفصلًا ومناصرًا للإلحاد لما يزيد عن نصف قرن من الزمان؟ الرد الموجز هو: أن تلك هي صورة العالم كما أراها الآن، والتي ظهرت لي من العلوم الحديثة. تسلط العلوم الضوء على ثلاث أبعاد للطبيعة تشير إلى الاله. الأول هو أن الطبيعة تسير وفق قوانين ثابتة مترابطة، والثاني هو بُعد الحياة؛ نشوء الكائنات المتناسقة بشكل ذكي والتي لها أهداف جوهرية تحركها من المادة، والثالث هو وجود الطبيعة نفسه. لكن ليست معطيات العلوم الحديثة وحدها هي التي استرشدت بها، فقد تم ذلك أيضا بفضل دراسة تجديدية للحجج الفلسفية الكلاسيكية.
يتبع...