قبل فترة الانقطاع السابقة كان هناك عدد لا بأس به من الأسئلة من متابعينا الكرام، ووعدنا بنشر منشورات حولها ولكن متأخرين كالعادة 😃
أحد الأسئلة التي طرحها الأخ جمال الوزاني كانت حول تضاعف الجينات gene duplication كدليل على إمكانية نشوء كافة الأنواع الحية عن طريق التطور الدارويني:
"هل يوجد إثبات علمي تجريبي معملي لإمكانية تكوين بروتين جديد واحد ((واحد فقط وليس 98 ألف بروتين)) أو حتى إنزيم جديد واحد فقط (وعادة الإنزيمات أصغر تركيبا من البروتينات)؟ ولاحظ: نحن نسأل عن (بروتين واحد فقط) من الضروري ظهوره كحدث عادي جدا جدا إذا كان التطور حقيقة بالفعل!!
الإجابة عن السؤال نعم يمكن أن يحدث هذا و يمكن أن نثبت هذا بالأليات التي تحدثه تفضل هنا الشرح لكيفية إنتاج بروتينات و جينات جديدة من خلال الطفرات فقط أكتب في محرك البحث هذه الجملة (( Les familles multigéniques )) وستظهر لك صور تشرح لك أليات إنتاج بروتينات جديدة و جينات جديدة ولكي أختصر عليك وقت البحث هذه مواقع تشرح الأليات عن طريق صور تبسيطية."
هذا الشرح للسيناريو الدارويني لنشأة الجينات والبروتينات غير دقيق، ولكنه يعبر عن قاعدة راسخة من قواعد تعامل الداروينية مع الأنظمة الحية، فكما يقول بيهي؛ إذا وجد الشيء، فالداروينية هي التي أنتجته.
يشرح ماير في (شك داروين) السيناريو الدارويني لإمكانية نشأة البروتينات بشكل دقيق:
"يُصوِّرُ علماءُ البيولوجيا التطورية هذه العملية في العادة ابتداءً من (حادثة تضاعف) لجين ما، فبالرغم من أنَّ العديد من الآليَّات المختلفة قادرة على توليد تضاعف في الدنا، إلا أنَّ الآلية الأكثر شيوعًا تَحدثُ خلال خطوة التعابر crossing-over في الانقسام المنصف الميوزي (meiosis) -أحد نوعي الانقسام الخلوي الذي ينتج الخلايا الجنسية أو الأمشاج في الحيوانات المتكاثرة جنسيًا-. خلال الانقسام الميوزي تتبادل الصبغيات المتناظرة homologous قطعًا من الدنا. في خطوة التعابر العادية، يتمُّ تبادل نفس الحجم من القطع المتقابلة بين الصبغيات المتناظرة، ما يَضمنُ عدم حدوث أي زيادة أو نقصان في الجينات لأي من الصبغيين بعد العملية. لكن يحدث أحيانًا أن يَتبادلَ الصبغيان المتناظران قطعًا غير متكافئة الطول، فيَنتج صبغيٌّ فقدَ جزءًا من الدنا -الصبغي الذي التقط قطعة أصغر من التي خرجت منه- وصبغيٌّ آخر استلم قطعة أكبر من المادة الوراثية فربح تسلسلًا جديدًا من الدنا الصبغي، هذا الجزء الفائض قد يَحتوي على جين أو أكثر يَكونُ لدى ذلك الصبغي نسخ موجودة سلفًا منها، مما يؤدِّي إلى تضاعف نسخ الجين على الصبغي.
عندما يَحدثُ هذا، قد يبدأ أحد الجينين بالتغاير -يَخضعُ للطفرات- دون أن تكون هناك آثار ضارة على وظيفة الكائن الحي، حيث يَقومُ الجين الآخر بالوظيفة. في اصطلاح لُغة البيولوجيا التطوُّرية، تكون التغيرات بالطفرات في الجينات المضاعفة محايدة انتخابيًّا؛ حيث لا تقدِّم في البداية أي ميزة أو عيب انتخابي للكائن أو الجماعة. تَسمحُ حوادث تضاعف المورثات هذه للطبيعة أن تجري اختبارات آمنة، يُمكنُها أن تمرِّر الابتكارات الجينية غير المفيدة وغير الضارة للأجيال القادمة، حيث ربَّما تحملُ (الطفرات الإضافية على المادة الوراثية الخاضعة للتطوُّر) في يوم من الأيام فائدة للكائن. في النهاية، وبتجمع الطفرات، قد يَظهر تسلسل جيني جديد في الكائن الحي الجديد، يكون مشفرًا لبنية فراغية ووظيفة جديدة في البروتين، عند هذه النقطة، يُمكنُ للانتخاب الطبيعي أن يختار الجين الجديد ومنتجه البروتيني ويحفظهما، ويمررهما للأجيال المستقبلية، ليستمر الأمر على هذا المنوال.
هذا السيناريو -الذي يُشيرُ إليه العديد من علماء البيولوجيا التطوُّرية الآن بالنموذج الكلاسيكي لتطور الجينات- ذو ميزة تَسمحُ لأجزاء من الجينوم بالتغير بحرية على عدة أجيال متعاقبة، ما يمنحُ الجينات المزيد من الفرص للبحث في حيّز التسلسلات دون الخضوع للعقوبة عند السقوط في الوادي بفقد أو تناقص الوظيفة".(1)
طيب هذا السيناريو الرائع جدا، ما الإشكال فيه؟
يكمل ماير: "هذا السيناريو يواجه مشكلةً جوهرية؛ ألا وهي الندرة الشديدة في التسلسلات القادرة على تَشكيل طيَّات ثابتة والقيام بوظائف حيوية. ونظرًا لكون الانتخاب الطبيعي لا يُساعدُ في توليد الطيَّات الجديدة في التسلسلات الوظيفية، إنَّما يَحفظها فقط بمجرد ظهورها، فإنَّ الطفرات العشوائية وحدها يَجبُ أن تبحث عن الطيَّات والتسلسلات الوظيفية بالغة الندرة ضمن بحر واسع من التوليفات الممكنة.
هذه هي القصة الكبيرة المرتبطة بتجارب أكس، حيث أظهرت أبحاثه أنَّ التسلسلات الوظيفية المطويّة فراغيًّا من الأحماض الأمينية نادرة للغاية ضِمنَ حيز التسلسلات".(2)
وهنا تتضح المشكلة بجلاء، فالقضية ليست في رصد بروتينات جديدة وافتراض أنها نشأت بالآليات الداروينية، ولكن القضية أن تأتينا بدليل يثبت أن الآليات الداروينية قادرة على إنشاء البروتينات الجديدة!
تجارب أكس أثبتت أن "احتمال أي محاولة تطفرية لتوليد -أو العثور على- بروتين وظيفي محدَّد من بين كل التسلسلات الببتيدية المُمكنة بطول 150 حمض أميني هو 1 إلى 1077، أي أنَّ فرصتها بالصُدفة هي واحد في مئة ألف تريليون تريليون تريليون تريليون تريليون تريليون!".(3)
فرصة واحدة صحيحة في مقابل 1077 فرصة فاشلة، هذا هو حجم المشكلة التي يواجهها من يبحث عن "إثبات علمي تجريبي معملي لإمكانية تكوين بروتين جديد واحد" من خلال الآليات الداروينية، أما من يتعامل مع الداروينية كمسلمة مفروغ منها، فهذا من الطبيعي أن يشير إلى أي شيء موجود بالفعل، ويخبرنا أن الداروينية هي التي أنتجته، تماما كما يشرح بيهي في هذا المقطع.
في نفس الإطار، يشرح مايكل بيهي في (صندوق داروين الأسود) المنشور عام 1997 مشكلة أحد السيناريوهات الأخرى المعتمدة على تضاعف الجين:
"لا تقول فرضية تضاعف الجين والخلط شيئاً عن كيف أنتج في البداية أي بروتين أو نظام بروتيني؛ سواءً ببطء، أو فجأة، أو إذا كان انتقاءً طبيعيّا أوْ بأحد الآليّات الأخرى. ضع في ذهنك أنّه ربّما يحاكي –بطريقةٍ ما– نابضُ مصيدة الفئران نابضَ الساعة، وربما تحاكي العتلة crowbar مطرقة مصيدة الفئران، ولكن لا تعطينا هذه التشابهات أي شيء عن كيفية صنع مصيدة الفئران. ليدعي أحدهم أن نظاماً تطوّر تدريجياً بالآلية الداروينية، يجب عليه أن يُثبِت أنّ وظيفة النّظام –قد تشكلت– عن طريق عدد هائلٍ من التّعديلات الطّفيفة النّاجحة".(4)
وفي ورقته عن "محاكاة التطور بعملية تكرار الجين لخصائص البروتين الذي يتطلب ثمالات أحماض أمينية متعددة Simulating evolution by gene duplication of protein features that require multiple amino acid residues" المنشورة في مجلة علم البروتينات عام 2004، يشرح بيهي مع سنوك مدى صعوبة أن تضيف الآليات الداروينية أي بروتينات مستحدثة إلى البِنى البروتينية الموجودة سابقًا، ويلزم وفق تحليلهما أن توجد آليات إضافية بجانب العمليات الداروينية التقليدية حتى تنتُج الكثير من التأثيرات المتبادلة بين البروتينات:
"إن الحاجة لجمهرات كبيرة جدًا [ 10^9 أو أكبر لبناء أصغر سمة متعددة الثمالات Risedues، والتي تحتاج لتعديلين نيكليوتيدين خلال 10^8 جيل بواسطة العمليات التي وصفناها في نموذجنا]، والحاجة لجمهرات ضخمة لإظهار السمات الأعقد أو لتسريع ظهور تلك السمات، يشير إلى أن مضاعفة الجينات والطفرات النقطية آليتان غير فعالتين وحدهما، على الأقل بالنسبة للأنواع عديدة الخلايا مزدوجة الصيغة؛ لأن القليل من الأنواع عديدة الخلايا تصل للأعداد المطلوبة من الجمهرات. وعليه؛ يلزم وجود آليات أخرى لتفسير ظهور الخواص عديدة الثمالات في الكائنات عديدة الخلايا".(5)
يعني بلغة أبسط، يصطدم السيناريو الدارويني المحتمل مع الواقع المشاهد المرصود.
وفي كتابه (حافة التطور) المنشور في 2007، يلخص بيهي حجم الاستدلال بتضاعف الجينات في هذه العبارات:
"يحبّ الداروينيون الاعتقاد بأنّ تضاعف الجينوم من الطلقات السحرية للطفرات العشوائية، فقد منحت فجأة إمكانيات جديدة واسعة للجينوم. لكنّ يبدو أن تضاعف الجينوم، أي وجود نسخة احتياطية من كل جين من الجينات للاستفادة منها، ومئة مليون سنة من الزمن لم يعطيا خميرة الخبز أيّ أفضلية لم تكن لتحظى بها. يقودنا هذا إلى نقطة هامة جدًا. لا تؤدي مضاعفة جين مفرد، أو حتى الجينوم بأكمله، بصورة عشوائية إلى الحصول على آلية معقدة جديدة، فهي تعطي فقط نسخة ممّا كان موجوداً بالأصل".(6)
(1) د. ستيفن ماير، شك داروين: النشوء المفاجئ لحياة الكائنات وحجة التصميم الذكي، مركز براهين 2016، ص325.
(2) المصدر السابق ص327.
(3) المصدر السابق ص329.
(4) د. مايكل بيهي، صندوق داروين الأسود: تحدي الكيمياء الحيوية للتطور، الطبعة الثانية، مركز براهين 2018، ص124.
(5) Michael Behe and David W. Snoke, “Simulating evolution by gene duplication of protein features that require multiple amino acid residues,” Protein Science, Vol. 13 (2004).
(6) د. مايكل بيهي، حافة التطور: البحث عن حدود الداروينية، مركز براهين 2019، ص106.