مشكلتنا مع الدحيح ليس في أنه مسلم يتبنى نظرية داروين ويروج لها، فقد سبقه بذلك الكثير للأسف. ولكن مشكلتنا الحقيقية معه هي أنه اختار تكرار ما يسميه مايكل بيهي "الاعتراض الأكثر تكرارا على التصميم الذكي"، والقصة التي أوردها في ثنايا "اعتذاره" عن تكرار حجة الشبكية المعكوسة Inverted Retina للقول بوجود عيوب أو أخطاء في التصميم، تثبت أنه يعي ما يفعله جيدا. فأن تقول أنني قرأت "للتطوريين" فوجدت أنهم يقولون ذلك، فظننت أن هناك "إجماع" على الأمر، فهذا ليس له سوى معنى واحد، هو أنك تفترض أن الدوجما التطورية وأنصارها، هم أصحاب الرأي فقط، ومن سواهم ليس بشيء أصلا! لا تعترف بوجود حتى نظام علمي للتحقق من صحة الافتراضات التي يتم تفسيرها تطوريا، لا تعترف أن هناك أوراقا علمية ينبغي عليك النظر فيها قبل أن تفترض الإجماع على مسألة ما! لا تفترض أن هناك مراجع كتبها متخصصين عليك مراجعتها!
هذا التدمير الخطير لأبجديات البحث العلمي، من شخص يدعي أن هدفه حث الناس على الانفتاح على العلوم التجريبية، ينبغي الوقوف عنده، وتبيان مدى خطورته.
لنعود إذن لبدايات القصة، في عام 1986م، نشر الملحد الشهير ريتشارد دوكينز، كتابه المليء بالأوهام (صانع الساعات الأعمى The Blind Watchmaker)، وكان من ضمن الاعتراضات التي أوردها على حجة التصميم، افتراضه أن هناك أخطاء أو عيوب في تصميم العين، وبالتالي فهذا يثبت -لديه- أنها ليست مصممة من الأساس، وأنها نشأت عن طريق العمليات التدريجية العشوائية غير الموجهة. يقول في كتابه:
"أي مهندس كان سيفترض بشكل طبيعي أن تكون الخلايا الضوئية متجهة نحو الضوء، مع توجيه موصلاتها للخلف ناحية المخ. وكان سيضحك على أي اقتراح تكون الخلايا الضوئية فيه بعيدة عن الضوء، مع وجود الموصلات في أقرب ناحية للضوء. وبالرغم من ذلك فهذا بالضبط ما يحدث في جميع أعين الفقاريات. في الواقع كل خلية ضوئية مربوطة للخلف، وموصلاتها خارجة في الجانب الأقرب للضوء. على الموصل أن ينتقل عبر سطح الشبكية، إلى نقطة يهبط من خلالها في ثقب في الشبكية (التي تسمى "النقطة العمياء") لكي يتصل بالعصب البصري".(1)
وبالرغم من مقولته تلك، يرى دوكينز أن أعين الفقاريات تعمل جيدًا! ولكن "المبدأ نفسه سيسيء إلى أي مصمم صاحب عقل منظم".
بعد ذلك بستة أعوام، تبعه عالم البيولوجيا التطورية (جورج ويليامز George C. Williams) بمقولة أشد قسوة: "لن تكون هناك نقطة عمياء إن كانت أعين الفقاريات مصممة بذكاء بالفعل"، وقال أيضا: "في الحقيقة هي مصممة بغباء".(2)
وبالمثل، في عام 1994م، البيولوجي -ومؤلف الكتب الدراسية textbook- كينيث ميلر كتب أن عين الإنسان "التي تعتبر النموذج المثالي للتصميم الذكي"، هي مصممة بشكل سيء. وقال أيضا: "المصمم الذكي -الذي يتعامل مع عناصر تلك التمديدات المشبكية- حتمًا سينتقي الاتجاه الذي يحقق أفضل وأعلى درجة جودة بصرية، فعلى سبيل المثال؛ لا يمكن لأحد أن يقرر وضع الوصلات العصبية أمام الخلايا المستقبلة للضوء بدلا من أن توضع خلف شبكية العين -وبالتالي يُمنَع وصول الضوء إلى الخلايا المستقبلة له-. لكن ما لا يمكن تصديقه أن هذا بالضبط هو بناء شبكية العين البشرية".(3)
وفي عام 2005م، نشر البيولوجي الشهير (دوجلاس فوتويما Douglas Futuyma) كتابا دراسيا textbook يدعي فيه أن "لا يتوقع من مهندس ذكي أن يصمم... الترتيب الوظيفي الأحمق" للخلايا العصبية لشبكية العين.(4)
وفي نفس العام، كتب البيولوجي الشهير (جيري كوين Jerry Coyne) أن العين البشرية "ليست النوع من العيون الذي يمكن لمهندس أن يخلقه من الصفر".(5)
هل لو راجعنا الأدبيات العلمية المنشورة قبل أن ينشر التطوريين كلامهم هذا، سنجد فيها ما يثبت صحة أقوالهم تلك؟
لنتابع الكارثة مع فقرات من الفصل السابع من كتاب د. جوناثان ويلز (العلم الزومبي)، والذي صدر منتصف 2017:
إذن فمن منظور النظرية التطورية تبدو العين البشرية مصممة بشكل سيء، ولا تقدم النظرية باعثا على التحقيق أكثر في الأمر. ولكن، ماذا إن نظرنا للعين من منظور الوظيفة؟ ماذا إن كان تصميمها الذي يفترض أنه سيء يُمكنها فعلا من أن تعمل بشكل أفضل؟
النوعان الأساسيان للخلايا الحساسة للضوء في الشبكية الخاصة بالفقاريات هما العصي والمخاريط. والأخيرة حساسة جدا للضوء، وتؤدي وظيفتها جيدا في الضوء الخافت أو أثناء الليل. وهي في الواقع تستطيع أن تستشعر حتى الفوتون الواحد(6)، لكنها تبصر فقط اللونين الأبيض والأسود. ويقل عدد المخاريط كثيرا عن العصي، كما أنها ليست بحساسية العصي للضوء، ولكنها تبصر الألوان.
تحتاج كل من العصي والمخاريط كميات كبيرة من العناصر الغذائية و قدر هائل من الطاقة. تصفهم أحد الكتب الكلاسيكية للعين بأنهم "جشعون".(7) في الثدييات، تمتلك أعلي معدل استقلاب من بين كل أنسجة الجسم.(8) يتدفق نحو ثلاثة أرباع الأمداد الدموي للعين خلال شبكة كثيفة من الشعيرات الدموية تسمي "شعيرات المشيمية"، والتي تقبع خلف الشبكية.(9)(10) يُنقل الأوكسجين والعناصر الغذائية ومنها فيتامين أ المعدل من الدم في الشعيرات الدموية إلي العصي والمخاريط من خلال طبقة وسطية من الخلايا المتخصصة يطلق عليها (11)(12) (الطبقة الطلائية الصبغية Retinal pigment epithelium).
بالإضافة لنقل الأكسجين والعناصر الغذائية، تؤدي الطبقة الطلائية الصبغية وظيفة أساسية أخري. تحتوي العصي والمخاريط علي أكوام من الأقراص التي تكتظ بالمواد الكيميائية الحساسة للضوء. وأثناء عملية استشعار الضوء، تتكون موادا كيميائية سامة لابد من التخلص منها حتي تستمر الخلايا الحساسة للضوء في العمل. في عام ١٩٦٧ أثبت (ريتشارد يونج Richard Young) تجريبيا أن الخلايا المستقبلة للضوء تجدد نفسها باستمرار عن طريق التخلص من الأقراص في نهايتها الأقرب للطبقة الطلائية الصبغية واستبدالها بأقراص أخرى تصنعها في الطرف الآخر.(13) تقوم الطبقة الطلائية ببلع وهضم الأقراص البالية لتعادل السموم.(14) وتستطيع الخلايا الطلائية أن تفصل نفسها و"تتجول في الطبقة العصبية للشبكية منظفة إياها من المخلفات".(15)
إذا كان علي العصي والمخاريط أن تواجه الضوء القادم مباشرة كما يوجب عليها التطوريون، سيكون علي الشعيرات المملؤة بالدم والطبقة الطلائية الصبغية أن تكون أمام الشبكية حيث تحجب كل الضوء تقريبا. علي النقيض من ذلك، الخلايا العصبية شفافة نسبيا، وتحجب قدر ضئيل جدا من الضوء. بسبب الحاجات الاستقلابية للعصي والمخاريط وحاجاتها لتجديد نفسها، فإن الشبكية المعكوسة في الواقع أكثر كفاءة بكثير من التصميم "المنظم" الذي يتخيله علماء البيولوجيا التطوريين.
النقطة العمياء ليست مشكلة خطيرة، لأنها أولا صغيرة جدا، وثانيا لأن النقطة العمياء للعين اليسرى لا توجد في نفس المكان الخاص بالعين اليمني. مما يعني أن في الشخص الذي يملك عينين سليمتين، يقوم المجال البصري لأحد العينين بتغطية النقطة العمياء للعين الأخرى، والعكس صحيح.
معظم الأبحاث المشار إليها بالأعلى، والتي توثق الوظائف الأساسية للشعيرات المشيمية والنسيج الطلائي الصبغي نُشرت قبل عام 1986!
ولكن دوكينز، وويليامز، وميلر، وفوتويما، وكوين لم يكلفوا أنفسهم بمطالعة الأدبيات العلمية. لقد أفترضوا ببساطة أن التطور حقيقة وأنهم يعرفون كيف يجب أن تُصمم العين. ثم استنتجوا أن العين البشرية سيئة التصميم، وادعوا أنها دليلا علي التطور، وتجاهلوا الدليل المضاد. وذلك هو ما أسميه ممارسة العلم الزومبي.
بالنسبة لجوناثان ويلز، أن تدعي أنك تمارس العلم، ثم تعارض الأدلة، فأنت لا تمارس العلم، وإنما تمارس العلم الزومبي، أو العلم الميت الذي تصر على إعادته للحياة، فالعلم كممارسة هو اتباع الأدلة، ولا يسمى غير ذلك علما على الإطلاق.
أن تجد المراجع العلمية والأوراق العلمية -المكان الذي من المفترض أن تذهب إليه لتحصل على "علم"- تسير في اتجاه، وأنت تذهب وراء الدوجما حيث أخذتك، فأنت تمارس الدجل والشعوذة لخداع الجماهير، ولا تمارس العلم إطلاقا!
أن تأتي في 2017، لتكمل مسيرة مروجي التطور الدوجمائيين، وتخرج لتقول للناس أنا ظننت أن هناك "إجماع" على الأمر فخرجت لأخبركم بما أرى أن عليه "إجماع العلماء"، وأنت لا تعرف من هم العلماء أصلا؟! فأنت في كارثة.
أن تخرج لتردد أكثر اعتراض يردده التطوريين على التصميم الذكي، وأنت في تجاهل تام لتعريف الناس بأن هناك شيء يدعى نظرية التصميم الذكي، فأنت تظهر للناس مدى التمسك الذي تبديه لدوجمائيتك الداروينية.
الخلاصة: ليست المشكلة في أنه أخطأ، لكن المشكلة أنه أثبت بنفسه مرجعيته في اختيار المعلومات التي تختص بهذا الملف. وطالما أنه اختار أن يكمل المسيرة التي بدأها عراب الملحدين ريتشارد دوكينز في عام 1986م، فعليه أن يتوقع هجوما مضادا.
(1) Richard Dawkins, The Blind Watchmaker (New York: W.W. Norton, 1986), 93.
(2) George C. Williams, Natural Selection: Domains, Levels, and Challenges (New York: Oxford University Press, 1992), 73.
(3) Kenneth R. Miller, “Life’s Grand Design,” Technology Review 97 (February–March, 1994): 24–32. http://www.millerandlevine.com/km/evol/lgd/.
(4) Douglas J. Futuyma, Evolution (Sunderland, MA: Sinauer Associates, 2005), 49.
(5) Jerry A. Coyne, “The faith that dare not speak its name: The case against intelligent design,” The New Republic (August 22 & 29, 2005): 21–33. http://pondside.uchicago.edu/ee/faculty/Coyne/pdf/New_Republic_ID.pdf.
(6) Jonathan N. Tinsley, Maxim I. Molodtsov, Robert Prevedel, David Wartmann, Jofre Espigulé-Pons, Mattias Lauwers, and Alipasha Vaziri, “Direct detection of a single photon by humans,” Nature Communications 7 (2016): 12172. doi:10.1038/ ncomms12172. PMID:27434854.
(7) Gordon Lynn Walls, The Vertebrate Eye (New York: Hafner, 1963), 652.
(8) Sidney Futterman, “Metabolism and photochemistry in the retina,” pp. 406–419 in Adler’s Physiology of the Eye, ed. Robert A. Moses, 6th ed. (St. Louis: C. V. Mosby, 1975), 406.
(9) Albert Alm and Anders Bill, “Ocular and optic nerve blood flow at normal and increased intraocular pressures in monkeys (Macaca irus): A study with radioactively labeled microspheres including flow determinations in brain and some other tissues,” Experimental Eye Research 15 (1973): 15–29. doi:10.1016/0014-4835(73)90185-1. PMID:4630581.
(10) Paul Henkind, Richard I. Hansen, and Jeanne Szalay, “Ocular circulation,” pp. 98–155 in Physiology of the Human Eye and the Visual System, ed. Raymond E. Records (Hagerstown, MD: Harper & Row, 1979), 139–140.
(11) Roy H. Steinberg, “Interactions between the retinal pigment epithelium and the neural retina,” Documenta Ophthalmologica 60 (1985): 327–346. doi:10.1007/BF00158922. PMID:3905312.
(12) Michael J. Denton, “The inverted retina: Maladaptation or preadaptation?” Origins & Design 19:2 (1999), issue 37. http://www.arn.org/docs/odesign/od192/invertedretina192.htm.
(13) Richard W. Young, “The renewal of photoreceptor cell outer segments,” Journal of Cell Biology 33 (1967): 61–72. doi:10.1083/jcb.33.1.61. PMID:6033942.
(14) Richard W. Young and Dean Bok, “Participation of the retinal pigment epithelium in the rod outer segment renewal process,” Journal of Cell Biology 42 (1969): 392–403. doi:10.1083/jcb.42.2.392. PMID:5792328.
(15) Steinberg, “Interactions,” 328.