كتاب مكون من حوالي 300 صفحة ويحتوي على معارضة علمية ونقد من العيار الثقيل لأحد النظريات، كيف سيتصرف معه أنصار تلك النظرية؟ هل سيواجهونه بتفنيد نقده وإثبات خطأ مسالكه وعدم علمية استنتاجته؟
لا! سيقتصون من داخله ثلاثة كلمات فقط "الانحدار المشترك حقيقة" ويدعون بعد ذلك أنه لا يخالف أصل النظرية، وإنما يعترض على بعض التفاصيل! 😃
أي تدليس هذا الذي تمارسونه يا سادة؟
يقول د. مايكل بيهي في (حافة التطور): "خلاصة القول هي؛ الانحدار المشترك حقيقة، ولكن على الرغم من أن تفسير الانحدار المشترك –حتى الانحدار المشترك للإنسان والشمبانزي– جَذّاب، لكنه على نحو عميق؛ تافه".
ماذا لو فعلنا مثلكم يا سادة يا كرام، ووضعنا صورة لمايكل بيهي ووضعنا بجانبها أنه فقط يقول عن الانحدار المشترك أنه أمر تافه؟!
بما ستسمون هذا التصرف؟
على أية حال، سنسرد القصة الكاملة، لمن يود فقط أن يعمل عقله...
أولا: ما صحة قول بيهي في الانحدار المشترك بشكل عام؟
لكي نجيب على هذا السؤال، لا بد أن نعرف أولا أنه من الناحية النظرية، لا تتعارض نظرية التصميم الذكي مع فكرة الانحدار المشترك لكافة الكائنات الحية على الأرض من سلف مشترك عام. يقول ديمبسكي: "القضية الرئيسية ليست في القرابة بين كل الكائنات الحية... القضية الرئيسية هي كيف نشأ التعقيد الحيوي، وفيما إذا كان الذكاء قد لعب دورًا محوريًا في نشوئه أم لا".(1) ونعم، فعلاقة الكائنات الحية ببعضها، ودرجات القرابة بينها، بعيدة نوعا ما عن إجابة سؤال السبب المفسر لوجودها. لكن من الناحية الأخرى، ما هي الأدلة العلمية التي تجعلنا نقبل الفكرة؟ في الحقيقة، لا توجد أدلة، والأسوء من ذلك أن هناك عوائق كثيرة تقف أمام قبول فكرة الانحدار المشترك. سجل الحفريات مليء بالانقطاعات ولا يستطيع أن يمدنا بالأشكال الانتقالية، وعلم تطور السلالات الجزيئي مليء بالمشاكل المنهجية والتدخلات الذاتية ثم أقصى ما يمكن أن يقدمه لنا هو اقتراح أسلاف افتراضية، وجينات الكائنات الحية مليئة بالجينات اليتيمة (التي لا تشبه أي من جينات الأسلاف المفترضة)، والشفرات الجينية للكائنات الحية لا يمكن إرجاعاها إلى مصدر واحد.(2)
ومايكل بيهي يدرك هذه الأمور تماما، ويعترف أنه لا يجد حلا لتلك المشاكل، لكن هو يرى أن افتراض وجود المصمم الذكي ينهي العوائق التي تقف أمام قبول الفرضية، لأن الاختلافات بين الأبناء المفترضين والأسلاف المفترضين، من السهل تفسير وجودها إن قبلنا بوجود المصمم الذكي، يقول بيهي:
"أنا لا أملك حلولًا للمشاكل الصعبة التي يطرحها العلماء المتشككين في فرضية السلف المشترك العام؛ الجينات اليتيمة ORFan genes، الشفرات الوراثية اللامعيارية nonstandard genetic codes، الطرق المختلفة للتخلق الجنيني بين الكائنات المتماثلة... إلخ. وعلى الرغم من ذلك –وفقًا لرؤيتي– لو أننا تحدثنا عن سلف مصمم بذكاء بدلا من سلف التطور الدارويني، فإن تلك المشكلات –على الرغم من أنها ستظل موجودة– سوف تصبح أقل تعجيزًا. أنا بالطبع أوافق على أن العمليات العشوائية غير الموجهة لا يمكنها أن تفسر الأمر، ولكن الفاعل الذكي ربما يكون له طرقه لتخطي الصعوبات الواضحة. إذن، في الحكم على احتمالية الانحدار المشترك، أنا أتغاضى عن المشاكل التي يمكن تسميتها بـ"كيف أتى ذلك إلى هنا؟"، وأعطي وزنا أكبر لحجج "الأخطاء" الجينية و"الخصائص اللاوظيفية". فإذا وجدت خاصية غريبة مشتركة بين نوعين، وكنا قادرين أن نقول –في حدود علمنا– أنه لا توجد لها وظيفة... فمن ثم أنا أرى ذلك دليلا قويا على الانحدار المشترك".(3)
والشاهد من هذا الاقتباس أن تصور بيهي للصلة بين المخلوقات مختلفة عن التصور الدارويني تماما، فالمشكلات المدمرة لفكرة السلف المشترك في التصور الدارويني غير موجودة في افتراض بيهي عن السلف المشترك، بسبب وجود التصميم الذكي. بعبارة أكثر وضوحا، هناك أشياء في الحياة من المحتمل أن تكون موروثة من سلف قديم، وهناك أشياء جديدة. إن استبعدنا التصميم من البداية –كما في الداروينية– فلن نستطيع تفسير الأشياء الجديدة، إن أعدنا التصميم للصورة، فمن السهل تفسير الأشياء الجديدة، ومن المقبول –مقبول وليس ضروري– أن يكون هناك أشياء موروثة من سلف قديم.
ولكن، الدليل الذي يرتكز عليه بيهي للقول بصحة الانحدار المشترك هو الجينات الكاذبة Pseudogenes التي لا نعرف لها وظيفة على حد علمنا الحالي، فهل يصح هذا الاحتجاج؟
في الحقيقة لا، والدليل من كلام بيهي نفسه، ففي خطاب إلى مجلة نيتشر في 2003، كتب بيهي:
"إذا كانت بعض الجينات الكاذبة على الأقل لديها وظائف غير مشكوك بها، أليس من الممكن أن تكون الخصائص البيولوجية الأخرى التي نراها غريبة لها وظائف لم نكتشفها بعد؟ ... خطر الحجج السلبية هي أنها ربما ترتكز على عدم المعرفة بدلا من النتائج الإيجابية".(4)
وليست المشكلة منطقية فقط، بل استدلالية أيضا، فهناك تصاعد للأدلة التي تثبت وجود وظائف للجينات الكاذبة، مما دفع مجموعة من الباحثين، في ورقة نشرت عام 2012، لإطلاق هذا التصريح القوي:
"نحن نؤمن أن سيتم اكتشاف العديد والعديد من الجينات الكاذبة الوظيفية كلما تم تطوير التقنيات البيولوجية في المستقبل... من المؤكد أن ما يسمى بالجينات الكاذبة pseudogenes هي بالفعل وظيفية، وأنه لا يجب الاستمرار في اعتبارها خردة أو حفريات دنا".(5)
وحينما تواصلنا مع بيهي خلال إعداد هذا الكتاب (28 أكتوبر 2018)، وسألناه إن كان موقفه تغير في قضية الجينات الكاذبة بعد خروج مثل هذه الأوراق، فأجاب:
"أنه بالرغم من أن هناك عدد من الجينات الكاذبة تم اكتشاف أن لها وظائف، لكن العديد منها لم يكتشف وظائف له بعد. لذلك أنا سأنتظر وأنظر. إن ثبت أن أكثرها له وظيفة، فهي بالتالي لن تبقى دليلا جيدا على الانحدار المشترك".
وبالرغم من ضعف الاحتجاج المنطقي الأساسي من وجهة نظرنا، وبالرغم من اقتناعه بالفكرة، لكنه منفتح تماما لتغيير رأيه في ضوء الأدلة الحديثة. فهو حتى في المسألة التي نراه فيها مخطئا، أفضل وأرقى من الدوجمائيين التطوريين، الذين يرون أن السلف المشترك حقيقة لأنه حقيقة.
ثانيا: ما صحة قول بيهي حول الانحدار المشترك للإنسان والشمبانزي؟
يقول مايكل بيهي عن جين البيتا جلوبين:
"نفس الأخطاء في نفس الجين وفي نفس المواقع في كل من دنا البشري والشمبانزي. فإن تعرّض السلف المشترك أوّلًا للأخطاء الطفرية ثم أدى إلى هذين النوعين الحديثين، فإنّ هذا يفسّر بسهولة كبيرة سبب امتلاك كلا النوعين لهذه الأخطاء. من الصعب أن نتصوّر كيف يمكن أن يكون هناك دليل أقوى لسلف مشترك للشمبانزي والبشر".
وهنا يجب أن نسلط الضوء على نقطة محورية، هل العبرة بما يقوله مايكل بيهي؟ هل حينما ننشر أحد كتبه، نكون بذلك نحتج بأقواله لأنها أقواله؟ أم لأننا نتفق معه في نتائجه ونرى صحة أدلته؟
في هذه المسألة، دليل بيهي لا يستقيم لا من الناحية المنطقية، ولا من الناحية العلمية.
فمن الناحية المنطقية، من الواضح أن تلك الفرضية تفتقر للإثبات الرصدي أو التجريبي، فالذي ثبت وجوده فقط هو جين معطل في الإنسان وجين معطل مشابه في الشامبنزي، لكن الذي ثبت هذا لا يثبت أننا وجدنا السلف المفترض الذي كان فيه الجين عاملا ثم تعطل! لماذا لا نقول أن هناك سلفين منفصلين للبشر والشمبانزي مرا بنفس الظروف البيئية التي تسببت في فقدان الجين لوظيفته لدى كل منهما؟ لماذا يكون هذا الافتراض أقل رجوحا من غيره؟
ومن الناحية العلمية، وفي ورقة حديثة في 2013 –كتاب حافة التطور نشر في 2007– قام مجموعة من الباحثين بفخص نسخ من جينات السلسلة بيتا (بيتا-جلوبين)، بما فيها الجين الكاذب المسمى HBBP1، من 1092 من البشر من 14 مجموعة سكانية حول العالم، ودرسوا أيضا نسخ من نفس الجينات في الشمبانزي. حينما قارنوا كل تلك النسخ من الجينات، وجدوا أن الجينات، بما فيها ذلك الجين الكاذب، بها عدد من الاختلافات أقل مما يمكن توقعه إن كانت بدون وظيفة، ووفقا لذلك، فهي جمعت طفرات محايدة بمعدل ثابت. وهذا يقترح أن الجين الكاذب في سلسلة البيتا لديه وظيفة. فما هي الوظيفة؟ تقول المجموعة:
"النتائج الحديثة تقترح أن HBD و HBBP1 ربما يكونا منخرطين في عقد حلقات الكروماتين في عنقود البيتا جلوبين في الإنسان، وهي آلية محورية للتنسيق الزمني لعملية التعبير الجيني".(6)
لكن على أية حال، وكما تم الإشارة سابقا، لا يعطي بيهي وزنا كبيرا للأمر، وهو بالفعل يرى الأمر تافها سواءًا ثبت انحدار البشر والشمبانزي من سلف مشترك أم لا، ففي النهاية هو يرى الانحدار مصمما بذكاء intelligently designed descent، بمعنى أن الإنسان نتج عن تصميم، والشمبانزي نتج عن تصميم، وسلفهما نتج عن تصميم، وبالتالي مهما كان حجم الاختلاف ضخما بين الإنسان والشمبانزي، فالتصميم يفسرها، والتشابهات يفسرها وجود سلف مشترك. ولا شك أن ذلك يختلف تماما عن الفكرة الداروينية التي لا تملك لتفسير فرادة الإنسان وتميزه إلا التناسل بين أفراد نوع السلف المفترض والطفرات التي تحدث في الذرية والانتقاء الذي يثبت النتائج المفيدة، فالإطار الذي يتحرك فيه فكر بيهي مختلف تماما عن ذلك.
ثالثا: هل يرى مايكل بيهي أن الإنسان نشأ بالتدرج من أرحام الحيوانات؟
لا يقول بذلك إلا من يتعمد إساءة فهم الرجل أو يتعمد الكذب عليه، المساهمة الأساسية لمايكل بيهي في هذه المناظرة، هو مفهوم التعقيد غير القابل للاختزال، يعني شخص يرى أن المحرك الدوار في السوط البكتيري لا يمكن أن ينشأ بالتدرج، ألا يستحي من ينسب له فكرة أن العقـــــل البشري نشأ بالتدرج؟
وفقا لبيهي، أينما وجدت الأنظمة المعقدة بشكل غير قابل للاختزال، يسقط مفهوم التدرج، ووفقا لبيهي أيضا، أقل تلك الأنظمة هي الماكينات الجزيئية داخل الخلية، وأعلاها هو العقل البشري. فكيف يمكن لعاقل أن يشك للحظة أن معنى كلام الرجل أن الإنسان يمكن أن يأتي من رحم الحيوان؟
ضع فوق ذلك كله قول بيهي في مقاله (عالم كاثوليكي يفحص الداروينية) عن الآراء التي تتحدث عن نشأة الإنسان بالطرق الداروينية:
"إن كانت مثل هذه الآراء التخمينية تتعارض بشكل مباشر أو غير مباشر مع المعتقد الموحى به من الله، فالمطالبة إذن بالاعتراف بها لا يمكن قبولها بأي حال من الأحوال".(7)