كشفت ورقة بحثية حديثة نشرها في نيتشر ستيليانوس لوكا وماثيو بينيل[1] هشاشة السيناريوهات التطورية المستنتجة من الأشجار التطورية للأنواع الموجودة حاليًا، وأثبتت رياضيًا أن هناك عددًا لا يحصى من السيناريوهات البديلة التي يمكن أن تفسر نفس الشجرة التطورية.
يحاول العلماء التطوريون استنتاج الماضي البيولوجي وكيف أدى هذا الماضي إلى الحاضر الحالي. ويعتمدون في ذلك على تقدير معدلي الانتواع والانقراض في الماضي، أي متى نشأت الأنواع الحيوية الجديدة ومتى انقرضت الأنواع السابقة، فيحدد هذين المعدلين عدد الأنواع المعاصرة. لكن بما أن "الأحفورات نادرة أو غير موجودة بالنسبة للأغلبية العظمى من الأنواع، يلجأ علماء التطور عند تقدير معدلي الانتواع والانقراض إلى علم السلالات (الفيلوجيني) بدلًا عنها - أي الأشجار التي ترسم كيف انحدرت مجموعة من الأنواع المعاصرة".[2]
مثلًا هناك 6600 نوع من العصافير المغردة، وهي أكثر من نصف كل أنواع الطيور الموجودة حاليًا، مما يوحي إلى علماء التطور بافتراض أن هذه الطيور ذات معدلات انتواع (الانتواع: نشوء أنواع جديدة) عالية مقارنة مع الطيور الأخرى. لكن من الممكن بالمقابل أيضًا أن نفترض أنها ذات معدلات انقراض منحفضة! بل بيّن المؤلفان أن هذا الارتياب أسوأ من ذلك: إذ ليس من المستحيل فقط عدم تقدير هذين المعدلين، بل يوجد عدد لا نهائي من الإمكانيات المختلفة لهذين المَعْلَمِين واللذين يمكن أن يصفا بشكل متماثل أي نتيجة معينة، وفي حالتنا هنا عدد أنواع العصافير المغردة.
فيقولان في نتيجة دراستهما الرياضية "لقد أثبتنا أنه بالنسبة لأي سيناريو تنوّع هناك عدد لا ينتهي من سيناريوهات التنوع البديلة التي يمكن بشكل مكافئ أن تولد أي شجرة زمانية موجودة".[1]
لننظر إلى الأشجار التطورية التي تصف أنماط الانحدار ضمن مجموعة من الأنواع المعاصرة (في الصورة، a و b). من السهل لأي شجرة سلالالية (فيلوجينية) بناء ما يسمى مخطط السلالات عبر الزمن؛ وهو ذلك الذي يسجل عدد السلالات المتزايد حتى النقطة الزمنية على الشجرة التي تعيش فيها الأنواع المعاصرة الآن (الصورة c). يسمى ميل المنحنى في هذا المخطط لامدا λ وهو معدل الانتواع الكلي، ويساوي الفرق بين معدل الانتواع (يرمز له بـ b من birth أي ولادة) ومعدل الانقراض (يرمز له بـ d من death أي موت). ويعبر عنه بالمعادلة التالية:
λ=b-d
لكن الصعوبة تكمن في تقدير b و d لأنه إذا لم يكن لدينا سوى عدد الأنواع التي بقيت على قيد الحياة في الحاضر، كما في مثالنا وهو الستة آلاف وستمائة طير مغرد، فإن أي زوج من b و d يعطيان نفس قيمة λ سينتجان منحنى السلالة عبر الزمن نفسه وهناك عدد لا نهائي من هذه الأزواج. فمثلًا المنحنى في الصورة c صالح للشجرتين في الصورة، الشجرة في a والشجرة في b، رغم أن كلا الشجرتين تملكان معدلات انتواع وانقراض مختلفة.
يكتب مارك بيجل في قسم الأخبار والآراء المرافقة لهذه الورقة في مجلة نيتشر "ستثبط نتيجة لوكا وبينيل علماء التطور الذين يبحثون عن صلة بين مستويات الانتواع والانقراض الماضية مع... الأحداث التاريخية".[2] ويبين المنطق الدائري الذي يقع فيه علماء التطور (المنطق الدائري هي مغالطة فكرية حيث يبدأ فيها الشخص بافتراض ما يحاول إثباته في النهاية) فيقول "يمكن افتراض افتراضات حول كيفية تغير الانتواع والانقراض مع بعضها البعض عبر الزمن أو مع عدد الأنواع لكنها بالأصل افتراضات حول أشياء نريد تقديرها".[2]
اعتمد داروين في نظريته لتطور الكائنات الحية على الانتقاء الطبيعي أو بعبارة أخرى التطور بالانتقاء الطبيعي. الانتقاء الطبيعي هو عملية تؤدي إلى تعديلات تكيفية ضمن الجماعات عبر الزمن ويشار إلى هذه التكيفات بالتطور الصغير microevolution، ويمكن ملاحظتها في الطبيعة وفي المختبر. لكن التطور الكبير macroevolution الذي يعد خلافيًا فيشير إلى نشوء الأنواع والأجناس والعائلات وكل الشعب التصنيفية الكبرى، وإلى نشأة الأعضاء المعقدة مثل أعين الفقاريات، وقد شكّل ذلك معضلة لداروين نفسه. فقد تنبأ داروين بأن التطور الصغير سيؤدي إلى التطور الكبير تدريجيًا وعبر الزمن، وقد تمنى داروين وقتها أن نجد في المستقبل كمًا كبيرًا من الأحفورات التي ستدعم نظريته التطورية (نتحدث هنا عن الجانب الخلافي من نظريته، وهو التطور الكبير)، لكن اتضح أنه "ليس هناك إلا أدلة ضئيلة على هذا الانتقال في الطبيعة"[3] حيث يتميز العالم الطبيعي بفجوات وانقطاعات. فالأحفورات كانت قليلة ولم ترقى لتطلعات التطوريين مما دفع عالم الحفريات الشهير ستيفن جاي غولد إلى نشر نظريته مع زميله نيلز إلدردج حول التوازن المتقطع punctuated equilibrium؛ والتي أكدوا فيها على أن الأحافير لا تبدي النمط التدرج التتابعي الطفيف عبر الزمن الذي افترضه داورين، بل تظهر على شكل نقاط متقطعة. وسرعان ما لجأ التطوريون إلى الاعتماد على الأشجار الفيلوجينية (السلالات التطورية)، واضعين منها استنتاجات وسيناريوهات افتراضية. لكن كما نرى في هذه الورقة، هذه السيناريوهات محل شك وريبة، وعلينا العودة مرة أخرى للبيانات الأحفورية الحقيقية كما يذكر المؤلفين "تؤكد نتائجنا أيضًا على أن البيانات الأحفورية مازالت حاسمة في الإجابة عن بعض أسئلة التطور الكبير".[1] الأمر الذي يعيدنا مرة أخرى إلى معضلة غياب الأدلة العلمية على نمط التدرج التتابعي المستمر الذي تتطلبه نظرية التطور.
فهل سنظل في الاستسلام الدوجمائي الذي يقبع فيه مؤيدي التطور الدارويني؟ أم ننتبه إلى أن كل السيناريوهات التي توصف بأنها كحقائق في الكتب المدرسية ليست سوى افتراضات تخمينية؟
[1] Louca, S., Pennell, M.W. Extant timetrees are consistent with a myriad of diversification histories. Nature (2020).
[2] Mark Pagel, Evolutionary trees can’t reveal speciation and extinction rates. Nature (2020).
[3] Reznick DN, Ricklefs RE. Darwin's bridge between microevolution and macroevolution. Nature. 2009;457(7231):837-42.